عندما تتحول القيم والمبادئ إلى "وجهة نظر" تفقد المجتمعات والأمم آخر خطوط دفاعها وتصبح في خطر
بقلم: د. عبدالرزاق القرحاني
EYE Contact لموقع
في لحظة تاريخية مضطربة كالتي يعيشها عالمنا اليوم، لم يعد الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمعات هو التفوق العسكري أو التقني للخصوم، بل الإنهيار الصامت الذي يعتري منظومة القيم والمبادئ داخل كل مجتمع وأمة، الشبهات حولها تحوم
هذا الإنهيار لا يحدث بضجيج، بل يتسلل ببطء، عبر تمييع المفاهيم، وتشويه الثوابت في كل حين، وتحويل ما كان يوماً ركائز صلبة للهوية إلى "وجهات نظر" تُناقَش وكأنها خيارات عابرة في كل الميادين
وحين يصبح الثابت متحركاً، والمبدأ مرناً إلى درجة التفكك والرثاء. يبدأ العدّ العكسي لاهتزاز المجتمع والدولة على السواء
المفارقة اليوم أن النقاش السياسي في أمتنا يُدار بمعايير مشوَّشة، تُستبدل القيم بالتقنيات، والمبادئ بالمكاسب المؤقتة، والكرامة بالحسابات الباردة. ويجري تصوير هذا التحوّل وكأنه "براغماتية" أو "واقعية سياسية"، بينما هو في جوهره سقوط للمعنى الذي يمنح الأمة قدرتها على النهوض، والحفاظ على الهوية
ما يجري اليوم في مجتمعاتنا ليس "اختلافاً في الرأي" ولا "تطوّراً في المفاهيم"، بل عملية تفكيك ذاتي خطيرة تُدار بنعومة، تُسقط القيم واحدة تلو الأخرى، وتحوّل ما كان أساس الهوية إلى مادة تسلية للنقاش التلفزيوني والمهاترات السياسية
لقد أصبحنا أمة تجرؤ على مناقشة كرامتها وكأنها خيار سياسي. أمة تتعامل مع العزة والإنتماء والواجب الوطني كأنها ملفات قابلة للتأجيل أو المقايضة. أمة تُعيد تعريف ذاتها كلما تغيّر مزاج إعلامي أو تبدّلت مصالح فئة نافذة
حين يتراجع إحترام القيم الكبرى، (كالعزة والكرامة والإنتماء والتضامن)، تتزعزع الروابط بين مكونات المجتمع، وتتراجع فكرة المشروع الوطني لصالح مشاريع فرعية وشخصية وفئوية .وهذا تحديداً ما يجعل أي مجتمع فريسة سهلة أمام الضغوط الخارجية.
ليس غريباً أن تكثر الأصوات التي لا تتحدث إلا عن “تفوق العدو التقني” و”محدودية قدراتنا وعجزنا التكنولوجي”
هذه الرؤية "على أهميتها في التقييم الواقعي" تتحوّل إلى هاجس يطغى على كل شيء، فَتُخفي السؤال الأهم
ما قيمة القوة التقنية إذا كان الداخل مفككاً؟
ففي التاريخ القديم والحديث عشرات الشواهد، لأمم تمتلك أحدث ما صنعته المصانع العسكرية لكنها انهارت لأنها افتقرت إلى منظومة قيم جامعة
وفي المقابل، شعوب بموارد قليلة صمدت وانتصرت لأنها امتلكت وعياً ثابتاً، وهوية واضحة، ومرتكزات أخلاقية غير قابلة للمساومة.الأمة التي تفقد إحترامها لقيمها لن تتمكن من فرض احترامها على خصومها.هذا قانون ثابت في السياسة كما في الاجتماع
فالخصم لا يقرأ أرقام الموازنات الدفاعية وحدها، بل يقرأ أيضاً مؤشرات الإستقرار الداخلي، وقوة الروابط الإجتماعية، ومستوى التماسك الوطني، وصلابة الموقف الأخلاقي
عندما يرى خصمك أن مجتمعك يتجادل في بديهيات قِيَمة، ويتراجع عن خطوطه الحمراء، ويتعامل مع مفاهيم الكرامة والسيادة كخيارات قابلة للمساومة، فهو يدرك أن المعركة حُسمت قبل أن تبدأ.السياسة الحكيمة ليست التي ترفض أهمية القوة التقنية، ولا التي تكتفي بها
:الإعداد الحقيقي للأخطار ولأي عدوان محتمل، يجمع بين شقين متلازمين
قوة المعنى و قوة المادة والمغزى
فقوة المعنى هي خط الدفاع الأول… بل الأمتن. لأنها ليست مجرد شعارات، بل هي وضوح المفاهيم الوطنية. والثبات على المبادئ الأخلاقية والإنسانية. وتحصين الوعي العام بكل حرية. وتعزيز ثقافة الإنتماء والمسؤولية المشتركة
أما قوة المادة، هي في التطوير الإقتصادي، والعلمي، والتقني، والصناعي، والعسكري
وهذا لا يتحقق الا في تفعيل البحث العلمي. والسعي نحو استقلالية القرار الاقتصادي، والحفاظ على منظومات الردع القادرة على حماية القرار السياسي. والاستثمار في الصناعات الدفاعية، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي
القوة التقنية ليست بديلة عن القيم، بل هي جزء طبيعي من منظومة تستمد مشروعيتها من الأخلاق والبادئ الإنسانية
ولولا المعنى لما كان للقوة قيمة، ولولا القوة لظلّ المعنى معلّقاً بلا قدرة على حماية نفسه.الأمم التي تفقد توازنها بين القيم والقوة تتحول سريعاً إلى أمم مفعول بها، لا فاعلة.تراقب مسار التاريخ بدل أن تشارك في صناعته.تتأثر بالقرارات الدولية بدل أن تكون جزءاً من هندستها.وتبرر ضعفها الداخلي بتفوق الآخرين، كأن العالم يُدار بمعزل عن إرادة الشعوب
وفي المحصلة، السياسة ليست فن إدارة الواقع فحسب، بل فن إرادة تغير الواقع نحو ما يحفظ الكرامة والسيادة والقوة
وحين تصبح القيم “ترفاً فكرياً”، وتُعامل المبادئ كعبء على الحسابات السياسية، عندها تخسر الأمة آخر خطوط دفاعها المعنوية، وتمنح خصومها أعظم ما يتمنونه: مجتمع بلا هوية، ووعي بلا مناعة، ومشروع بلا روح ومصداقية
الإصلاح السياسي يبدأ من هنا: من إعادة الاعتبار للقيم كركن من أركان القوة الوطنية، ومن فهم الإعداد الحقيقي كعملية مزدوجة تجمع بين قوة الفكرة وقوة الأداة، حتى تستعيد الأمة قدرتها على أن تكون رقماً صعباً… لا رقماً هامشياً في معادلات الآخرين
