· مقالات

صمتُ الدولة...خيانةٌ دبلوماسيّة لدماءِ اللبنانيّين

د. ليون سيوفي – باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ

EYE Contact لموقع

كلَّ يومٍ، يسقطُ في لبنان شهيدٌ أو أكثر برصاصِ العدوّ الإسرائيليّ أو بصواريخه التي لا تميّز بين مقاتلٍ ومدنيّ، بين بيتٍ أو مدرسةٍ أو طريق. تتكرّرُ المأساة، وتُرفعُ الجثامين، ويُنكسُ العلم، لكنّ الحكومة تبقى صامتةً، كأنّ ما يجري لا يعنيها، وكأنّ القتلَ صارَ قدراً لا يستوجبُ موقفاً أو صرخةً رسميّة واحدة

لقد تجاوزنا مرحلةَ الإدانة الشكلية، ودخلنا مرحلةَ العار الوطنيّ، حيثُ تغيبُ الدولةُ عن واجبها الدبلوماسيّ والأخلاقيّ في الدفاع عن أبنائها. إسرائيلُ تقتلُ، والحكومةُ تبرّر صمتها بالخوف من التصعيد أو بحجّة “ضبط النفس”، لكنّ أيّ دولةٍ تُضبطُ عن الكلام حين تُنتهكُ سيادتها ويُذبحُ شعبها؟

أين "وزارةُ الخارجيّة "من كلّ ما يجري؟ أين الموقفُ الرسميّ في الأمم المتحدة؟ أين استدعاءُ سفراءِ الدول الكبرى؟ أين المذكراتُ الاحتجاجيّة التي يفترض أن تُرسل كلّ يومٍ إلى مجلس الأمن؟ إنّ الصمتَ ليس سياسةً، بل تواطؤٌ يُغري المعتدي بمزيدٍ من العدوان. وإنّ التذرّعَ بالظروف الدوليّة ليس عذراً، بل إدانةٌ تُثبتُ أنّ الحكومة تخشى الخارجَ أكثر ممّا تخافُ على الداخل

في كلّ عاصمةٍ في العالم، حين يُقتلُ مواطنٌ واحدٌ داخل او خارج حدودها ، تُستنفرُ الدولةُ وتُحرّكُ بعثاتها الدبلوماسيّة والإعلاميّة للدفاع عن دمائها. أمّا في لبنان، فيُقتلُ المواطنُ داخل أرضه، وتُقصفُ بلداته، فلا يُسمعُ سوى صدى بياناتٍ باردةٍ تُكتبُ بيدٍ مرتجفة

ما قيمةُ حكومةٍ لا تحمي مواطنيها ولو بالكلمة؟ وما نفعُ دولةٍ تُخفي رأسها في الرمال بينما تُغتالُ هيبتها وكرامةُ شعبها على مرأى من العالم؟ إنّ الصمتَ في زمن القتلِ ليس حياداً، بل اشتراكٌ في الجريمة. ومن يسكتُ اليوم عن العدوان، سيسكتُ غداً عن الاحتلال، وعن التفريطِ بالسيادة، وعن كلّ ما يُكملُ سلسلةَ الانهيار

على الحكومة أن تتحرّك فوراً، لا لمجرّد إصدار بياناتٍ رمزيّة، بل بخطواتٍ عمليةٍ واضحة

استدعاءُ سفراءِ الدول المؤثرة ومطالبتهم بتحمّل مسؤولياتهم تجاه استمرار العدوان

تقديمُ شكاوى رسميّة إلى مجلس الأمن مدعومةٍ بصورٍ وتقاريرٍ ميدانيّة توثّق الجرائم

إطلاقُ حملةٍ ديبلوماسيّة وإعلاميّة تُظهر للعالم حقيقة ما يجري في الجنوب اللبناني

مساءلةُ كلّ من يعرقلُ هذا التحرك أو يلتزمُ الصمتَ باسم “الواقعيّة السياسيّة”

إنّ الدولة التي تخافُ من رفع الصوت في وجه القاتل، تفقدُ حقّها في أن تُسمّى دولة. وإنّ المسؤولَ الذي لا يرى في دماءِ اللبنانيّين سبباً كافياً للتحرّك، لا يستحقّ أن يجلسَ على كرسيّ الحكم ساعةً واحدة

لبنانُ ليس أرضاً سائبةً، وشعبُه ليس وقوداً لحساباتٍ دبلوماسيّة أو رسائلَ إقليميّة. من واجب الحكومة أن تُدافع عن مواطنيها بكلّ الوسائل الممكنة، وإلاّ فلتعلن بصراحةٍ أنّها عاجزةٌ عن أداء واجبها، ولتترك مكانها لمن يملكُ الجرأة على الصمود والقول والفعل

إنّ صمتَ الدولة اليوم جريمةٌ كبرى بحقّ الوطن، وإنّ التاريخ لن يرحم من باعَ الصوت مقابل البقاء في السلطة. فلبنانُ الذي يُذبحُ على الحدود وداخل ارضه لا يحتاجُ إلى حكومةٍ تُديرُ الأزمات بالسكوت، بل إلى رجالٍ يصرخون في وجه العالم..كفى قتلاً للبنانيّين… وكفى صمتاً باسم الدولة

أين هي الحكومة التي وُعِدَ بها اللبنانيّون يوماً كـ”أملٍ جديدٍ” يعيدُ للدولة وجهها وهيبتها؟ أين وعودُ الإصلاح، والشفافيّة، واستعادة القرار الوطنيّ المستقلّ؟ لقد تبيّن أنّها سرابٌ جديدٌ في صحراءِ الأزمات، وأنّ هذه الحكومة التي وُلدت وسط ضجيج الوعود لم تلد معها سوى مزيدٍ من الخيبات

حقّاً، إنّها حكومةٌ أفشلُ من سابقاتها، لأنّها لم تتعلّم من أخطائهنّ، ولم تجرؤ على المواجهة، ولم تمتلك حتى شجاعة الموقف. حكومةٌ تراقبُ البلاد وهي تُنزَف كلّ يوم، فلا تبادر، ولا تحتجّ، ولا تدافع. لقد سقطت في أول اختبارٍ للكرامة الوطنية، وأثبتت أنّ العجز حين يُلبس ثوبَ الحياد يصبح خيانةً صريحة

وما لم تنهض الحكومة من غيبوبتها، وتواجهَ العدوانَ بالفعل لا بالكلام، فلتعلم أنّ الشعب الذي صبر طويلاً، لن يسامح بعد اليوم من يساوم على دمائه، ولن يمنح ثقته لمن يستخفّ بسيادته

نعم، فالحسابُ آتٍ لا مَحال له، وساعةُ المحاسبة لن تُؤجَّل مهما حاولوا الهروب أو التبرير. فدماءُ اللبنانيّين لن تذوب في أرشيف البيانات، وصرخاتُ الجنوب لن تُطمَس تحت ركام الصمت الرسميّ. سيأتي اليوم الذي يُسأل فيه كلُّ مسؤولٍ، أين كنتَ حين كان وطنك يُقصف؟ وأين كان صوتك حين كان شعبك يُقتل؟

إنّ الشعب الذي صَمَتَ طويلاً احتراماً للدولة، لن يسكتَ بعد اليوم عن دولةٍ تُهينُ كرامته. وسيدرك الحاكمون ولو بعد حين أنّ الكرسيَّ لا يحمي أحداً من عدالة الأرض، كما لن يحميهم من لعنة التاريخ. فالحسابُ آتٍ، ولا مفرّ من يومٍ تُرفعُ فيه الأسماءُ أمام ضمير الوطن ليُقال: هؤلاء هم من صمتوا… فخسروا لبنان