· مقالات

السلام بين الحقيقة والتطبيع والأوهام

بقلم: د. عبدالرزاق القرحاني

EYE Contact لموقع

السلام ليس مجرد، غياب للحروب، بل هو منظومة قيم ومبادئ تسعى إلى إقامة العدالة والأمن والكرامة التي هي حاجة ماسة لكل الشعوب

السلام في جوهره، يقوم على الاعتراف المتبادل بالحقوق، وتغليب الحوار على الصراع المذموم

من الناحية السياسية، يُعدّ السلام استقرارا نابعا من العدالة لا من القهر... ومن الناحية الاقتصادية، هو تنمية مستدامة تُغني الشعوب عن الوقوع في فتنة الفقر... ومن الناحية الحقوقية، هو ثمرة احترام الإنسان لإنسانيته مدى الدهر... ومن الناحية الدينية، هو مقصد سام لكل رسالة سماوية تحمل الخير للبشرية وتقارع الشر

فلا يمكن بناء سلام حقيقي دون تحقيق العدالة للمظلومين، لأن الظلم يولّد المقاومة في كل الميادين

والسلام لا يعني إستسلام طرف لآخر، بل قيام كل طرف باحترام حق الآخر

ولا يُبنى السلام على الخداع السياسي. ولا على الاصطفاف العرقي أو الطائفي

والسلام يقوم على إحترام القوانين الدولية، والالتزام بالاتفاقيات الإنسانية

وفي منطقتنا شواهد وعبر، إلى كل من تصدر الإعلام وامتهن فن الكلام ولكل من كان من أصحاب المقام أو العوام

في اتفاقية كامب ديفيد (1978م): رغم وقفها الحرب بين مصر وإسرائيل، إلا أنها أثارت جدلًا واسعًا حول مفهوم “السلام المنفرد” الذي لا يعيد الحقوق الفلسطينية، ما جعلها نموذجا لسلام ناقص

أما في اتفاقية أوسلو (1993م): رُوِّج لها كطريق نحو السلام، لكنها تحولت إلى إطار إداري دون تحقيق العدالة والحقوق، مما أدى إلى تآكل للثقة، واستمرار للمعاناة، وتغيب للقضايا المحقة

السلام في منطقتنا لن يولد من مؤتمرات ولا من بيانات، بل من تغيير في المفاهيم والسياسات

فأول شرط للسلام الدائم هو الاعتراف بالحق الفلسطيني الكامل في أرضه وكرامته، لأنه جوهر الصراع ومفتاح الإستقرار

وثانيها تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية داخل الدول، لأن الفقر والبطالة والتهميش تُغذّي التوتر أكثر مما تفعل البنادق

وثالثها الشفافية في النوايا الإقليمية والدولية، فالتدخلات والازدواجية تقتل الثقة وتُبقي المنطقة في دوامة الخوف

أما الشرط الرابع فهو تعزيز ثقافة العدالة والمساواة والحرية، في التعليم والإعلام حتى تصبح جزءا من وعي الأجيال، لا شعارات تُرفع عند الحاجة

السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق ما لم يُبنَ على عدالة لا انتقائية فيها، وحرية لا استثناءات فيها، وإنسانية لا حدود لها

فالسلام الحقيقي يفتح القلوب، أما التطبيع يفتح الأسواق ويغلق الضمائر

السلام الحقيقي ينبع من إرادة الحرية، بينما التطبيع ينبع من إرادة الخوف والمصلحة

السلام الحقيقي لا يُشترى ولا يُفرض، بل يُبنى على قواعد ومبادئ ثابتة

إنه مشروع حضاري وأخلاقي بقدر ما هو سياسي واقتصادي، لا يتحقق بالشعارات ولا بالمؤتمرات، بل بالإرادة الصادقة التي تُوازن بين الحق والمصلحة، وبين الأمن والحرية

أما التطبيع فهو صورة مشوّهة للسلام، تُجمِّل الاحتلال وتُخفي الجرح بدل مداواته

فالسلام الذي لا يعيد الحق لأصحابه ليس سلاما، بل هدوءا خادعا يسبق العاصفة