· مقالات

حين يُكافَأ المُقترِضُ ويُعاقَبُ المودِعُ

أ. د. هلا رشيد أمون

EYE Contact لموقع

أيُّ دولةٍ هذه التي تكافئ مَن استدان أموالَ الناس، وتعاقبُ مَن ادّخرها؟

وأيُّ قانونٍ هذا الذي يُشرعن أرباحَ النافذين، ويحوِّل الضحيةَ إلى متّهمٍ باسم «الانتظام المالي»؟

بموجبِ تعاميم رسمية صادرةٍ عن مصرف لبنان بعد الانهيار المالي في العام 2019، سُمح لفئتين من المواطنين باتخاذ إجراءاتٍ مالية كانت، في حينه، قانونيةً بالكامل

الأولى، فئةٌ كانت قد اقترضت بالدولار من المصارف قبل الأزمة، وسُمح لها بسداد قروضها على سعر 1500 ليرة للدولار

والثانية، فئةٌ كانت مدّخراتها بالليرة اللبنانية، وسُمح لها، بتعميمٍ رسمي أيضًا، بتحويل هذه الليرات إلى دولار دفتريّ لحمايتها من الانهيار المتسارع للعملة الوطنية

اليوم، وبعد ستِّ سنواتٍ من الانهيار، يُحاسَبُ هذان الخياران القانونيان بميزانين مختلفين، في مفارقةٍ فاضحةٍ تمسُّ جوهرَ «العدالة»، وتضربُ مبدأ «المشروعية» في الصميم

أولاً - كيف يُكافَأ المقترضُ؟

في العام 2019، بلغ حجمُ محفظة التسليفات نحو 56 مليار دولار، منها حوالى 39.2 مليار دولار قروض بالعملة الأجنبية، و16.8 مليار دولار قروض بالليرة اللبنانية

وغالبيةُ القروض الضخمة المُقوَّمة بالدولار، لم تذهب إلى عامَّة الناس، بل إلى سياسيين، قضاة، ضباط، موظفين في مصرف لبنان، رؤساء مجالس إدارة ومدراء فروع في المصارف، إضافةً إلى شركات كبرى ونافذين في الدولة العميقة الفاسدة

لنفترض أنَّ أحدهم اقترض 100 ألف دولار قبل الأزمة. هذا القرضُ سُدِّد لاحقاً على سعر 1500 ليرة للدولار، أي بمبلغٍ زهيدٍ قياساً بالقيمة الحقيقية للعملة. واليوم، وبموجب ما يُناقَش تحت عنوان «قانون الانتظام المالي»، سيُطلب من هذا المقترض دفعَ غرامةٍ أو ضريبةٍ لا تتجاوز 30% من قيمةِ القرض

النتيجةُ بسيطةٌ وواضحة

مَن أخذ 100 ألف دولار، سيُعيد فعلياً ما يعادل 30 ألف دولار فقط. أما الـ70 ألف دولار المتبقية، فهي ربحٌ صافٍ، مُشرعَن بقانون

ثانيًا - كيف يُعاقَبُ المودِعُ؟

في المقابل، المودِعُ الذي ادّخر بالليرة اللبنانية – من راتبه، أو تعويض نهاية خدمته، أو جنى عمره – والتزم بتعاميم مصرف لبنان، وحوّل مدّخراته إلى دولار دفتريّ على سعر 1500، احتُجزت أموالُه في المصارف دون فوائد، واقتُطِع منها مبالغ معينة على مدى ستِّ سنوات

خلال سنوات الأزمة القاتلة، اضطُرَّ هذا المودِعُ إلى سحبِ جزءٍ من أمواله على أسعار منخفضة (15 ألف ليرة)، فيما كان سعرُ الدولار في السوق يقترب من 98,500 ليرة. النتيجةُ كانت استنزافاً تدريجياً لحسابه، وخسارةً فعليةً لقيمة وديعته

واليوم، وباسم «الانتظام المالي»، سيُعادُ احتسابُ هذا الدولار الدفتريّ على سعر 30 ألف ليرة فقط، أي أقلّ بثلثي قيمته الفعلية

ما يعني أنَّ وديعةً بقيمةِ 100 ألف دولار، لن يتبقَّى منها فعلياً سوى نحو 33 ألف دولار، هذا عدا عن اقتطاع الفوائد التي تجاوزت 2% منذ العام 2015، ما يزيد الخسارةَ أكثر

النتيجةُ واضحةٌ: المودِعُ يخسر أكثر من ثلثي مدّخراته. ليس لأنه ارتكب مخالفةً، بل لأنه ادّخر بعملته الوطنية، وثَق بالمصارف، والتزمَ بتعاميم الدولة. وهنا تبرزُ المفارقةُ الفاضحة: مَن استدانَ المالَ من أموال المودعين يُكافَأ، ومَن ادّخر المالَ من تعبه وعرق جبينه يُعاقَب

الأخطر: نزعُ الشرعيَّةِ عن ودائعَ شرعيَّة

الخطرُ لا يقتصر على الخسارة المالية، بل الأخطرُ أنَّ الدولة تمضي خطوةً أبعد، فتصنّف ودائع المواطنين الذين حوّلوا ليراتهم إلى دولار بموجب تعاميم رسمية، على أنها ودائع «غير شرعية» أو «غير مؤهلَّة»، وتضعها في خانةٍ واحدةٍ مع الودائع مجهولةِ المصدر أو المتأتيةِ عن تبييض الأموال

هذا في حين يتجاهلُ واضعو القانون عمداً فتحَ أيِّ تحقيقٍ جِدّي في كلفة «الدعم» التي قاربت 11 مليار دولار، وأرباحِ منصة «صيرفة» التي تجاوزت 4 مليارات دولار. هذه الملياراتُ التي أُخِذت من أموال المودعين، وذهبت إلى جيوب المحظيين والمقرّبين من حاكم مصرف لبنان السابق، وزعماء الطوائف، والنافذين في المنظومة السياسية – المالية

وهنا نكون أمام انحرافٍ أخلاقي وقانوني خطير: تبييضُ الأموال جريمةٌ يُعاقَبُ عليها صاحبُها والمصرفُ الذي قَبِلها.

أما ودائعُ المواطنين، فمصدرُها رواتب وتعويضات وإرث ومدّخرات مشروعة، وتحويلها جرى بقرارٍ رسمي من مصرف لبنان. وما كان مشروعاً بالأمس، لا يمكن نزعُ شرعيته اليوم بأثرٍ رجعيّ، وبقانونٍ انتقائيّ وتعسُّفي

الخلاصة

ما سيُناقَش غداً الجمعة تحت عنوان «قانون الانتظام المالي» ليس قانوناً لإصلاح النظام المالي، بل محاولةً فاضحةً لتوزيعِ خسائر المصرفيين المقامرين، وإعادةِ تعويمِ المصارف الفاسدة والجشعة، من جيوب المودعين. إنه قانونٌ يتجاهل استردادَ الأموال المهرَّبة والمنهوبة، ويطلب من ضحايا الانهيار أن يدفعوا ثمن الجريمة

وبدلَ محاسبةِ مَن راكم الثروات عبر النفوذ والصفقات والسمسرات وسوء استخدام السلطة، يُحمَّل العبءُ الأكبر للطبقة المتوسطة التي سُحقت خلال ست سنوات من القهر، واحتجاز الودائع، وانهيار العملة

هكذا، يسعى القانونُ الى شرعنةِ أرباحٍ غير مشروعةٍ، وتحويلِ الضحيَّةَ إلى مُذنبٍ مشكوكٍ في نزاهته. ومع أنَّ تدقيقاً بسيطاً في مصادر الأموال كفيلٌ بالتمييز بين المودِع الشريف والمودِع المرتشي، إلا أنَّ السلطةُ اختارت الطريقَ الأسهل: العقابَ الجماعي