السجونُ في لبنان… مقابرُ للأحياء أم مراكزُ للإصلاح؟
د. ليون سيوفي – باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ
EYE Contact لموقع
في دولةٍ تتحدّث عن “العدالةِ” صباحاً و“الإنسانيّةِ” مساءً، يعيشُ آلافُ السجناءِ خلفَ القضبانِ في ظروفٍ لا تليقُ بكرامةِ إنسانٍ ولا بعدالةِ وطن
ظُلمُ السجونِ لا يرحم، لأنّ العقابَ فيها يتجاوزُ حدودَ الحكمِ ليصبحَ انتقاماً صامتاً يقتلُ الروحَ قبلَ الجسد
كيفَ يمكنُ لدولةٍ أن تتباهى بحضارتها، وسجونُها تضيقُ بأضعافِ قدرتها الاستيعابيّة، وملفّاتُ مئاتِ الموقوفينَ لم تُراجَع منذُ سنوات؟ أليسَ من العارِ أن يبقى مظلومٌ واحدٌ خلفَ القضبانِ في دولةٍ تُنادي بالإصلاحِ والعدالة؟
إنّ المأساةَ ليست فقط في الاكتظاظِ أو الإهمالِ، بل في غيابِ الفلسفةِ الإصلاحيّة التي تُميّزُ بين العقوبةِ والتأهيل. فالسجنُ في لبنان ليسَ “مكاناً لإصلاحِ الفرد” بل “مؤسّسةً لإعدامهِ الاجتماعيّ”، يدخلُ إليها الشابُّ من أجلِ مخالفةٍ بسيطةٍ كـ”شيكٍ بلا رصيد”، او مخالفة قانون السير ويخرجُ منها خبيراً في الجريمةِ والترويجِ والزعرنة
هكذا تُحوِّلُ الدولةُ السجنَ من أداةِ ردعٍ إلى مدرسةٍ للجريمة
المسؤوليّةُ السياسيّةُ لا يمكنُ التنصّلُ منها. لقد عجزت الحكوماتُ المتعاقبةُ عن تطويرِ نظامٍ إصلاحيٍّ حديثٍ يوازي ما هو معمولٌ بهِ في الدولِ المتقدّمةِ، حيثُ السجونُ تُدارُ بعقيدةٍ تربويّةٍ وإنسانيّةٍ تهدفُ إلى إعادةِ إدماجِ السجينِ في المجتمع، لا تحطيمهِ
في البلادِ الحضاريّة، تُعامَلُ السجونُ كمراكزِ تأهيلٍ حقيقيّةٍ
يتعلّمُ السجينُ فيها حِرفةً أو مهنةً تُعينُه بعدَ خروجه
يُقدَّمُ لهُ دعمٌ نفسيٌّ واجتماعيٌّ يُساعدُه على التغيير
تُتاحُ لهُ برامجُ تعليميّةٌ وتدريبيّةٌ تعيدُ إليهِ ثقتَهُ بنفسِه
يُعادُ دمجُه في المجتمعِ كفردٍ منتجٍ لا كرقمٍ منسيٍّ في ملفٍّ قضائيّ
أما في لبنان، فالسجينُ يخرجُ من السجنِ مُحطَّماً ومُهمَّشاً، مرفوضاً من سوقِ العملِ، محروماً من الفرصِ، ومُطاردَاً بالوصمةِ الاجتماعيّةِ. فكيفَ نطلبُ منهُ ألا يعودَ إلى الخطأِ إن كنّا نحنُ من أغلقنا أمامهُ أبوابَ الصواب؟
المطلوبُ اليوم، عفوٌ عام يستثنى منه من قتل ضباط وعناصر من الجيش ، او إصلاحٌ، ورؤيةٌ إنسانيّةٌ جديدة
لقد آنَ الأوانُ أن تتصرّفَ الدولةُ بعقلٍ إصلاحيٍّ لا عقابيّ، وأن تُطلِقَ ورشةَ إصلاحٍ وطنيّةٍ للسجون تشمل..دراسةَ جميعِ الملفاتِ العالقة لموقوفينَ لم تصدرْ بحقّهم أحكامٌ بعد.او إقرارَ عفوٍ مشروطٍ عن المظلومينَ ومن أنهوا محكوميّتهم.
تحويلَ السجونِ إلى مؤسّساتٍ إصلاحيّةٍ وتأهيليّةٍ بإشرافِ خبراءَ في علمِ الاجتماعِ والنفسِ
إطلاقَ برامجَ تعليمٍ وتدريبٍ مهنيٍّ داخلَ السجون تمكّنُ السجناءَ من اكتسابِ مهنةٍ تحميهِم من العودةِ إلى الجريمةِ
إشراكَ المجتمعِ المدنيِّ والجامعاتِ في مراقبةِ الأداءِ السجنيّ لضمانِ الشفافيّةِ والرقابةِ الإنسانيّة
العفوُ ليسَ ضعفاً… بل شجاعةُ دولةٍ تعترفُ بالخطأ
العفوُ عن المظلومينَ لا يعني التهاونَ مع الجريمةِ، بل احترامَ الإنسانِ والعدالةِ في آنٍ واحد
في كثيرٍ من الدولِ المتقدّمةِ، يُعتبرُ الإصلاحُ داخلَ السجونِ مقياسَ رقيّ الدولة، أمّا عندنا فيُعتبرُ السجينُ خطراً، حتى بعدَ توبتِه
العدالةُ الحقيقيةُ لا تكونُ حينَ يُعاقَبُ الجميعُ، بل حينَ يُنصَفُ المظلومُ ويُعطى الجاني فرصةَ التغييرِ. ومن يُريدُ بناءَ دولةٍ عادلةٍ، فليبدأ من السجونِ، لأنّ كرامةَ المظلومِ هناك هي مرآةُ كرامةِ الوطن