من ألفريد ماهان إلى توم برَّاك: ولادةُ مصطلح "الشرق الأوسط "
أ. د. هلا رشيد أمون
· مقالات
لم تكن ولادةُ مصطلح "الشرق الأوسط" مجرد تسميةٍ عرضيةٍ أو مجرد تعبير جغرافي بريء، بل لقد نشأ وانتشر في سياقٍ استعماري-استراتيجي معقد، بوصفه أداةً لإعادةِ رسمِ الخرائط، لا مجرد تسمية جغرافية
:اللحظةُ التأسيسية للمصطلح
إنَّ اللحظةُ التأسيسية (اللغوية والمفاهيمية لا الشعبية) للمصطلح، وأولُّ استخدامٍ موثَّقٍ ومعتمدٍ له، كانا على يد الأميرال الأمريكي "ألفريد ماهان" في العام 1902، الذي استخدم هذا المصطلح في متن مقالةٍ نشره في المجلة البريطانية The National Review، بعنوان The Persian Gulf and International Relations وجَّهه إلى صُنَّاع القرار البريطانيين، مُحذراً من تزايد نفوذ روسيا القيصرية في منطقة الخليج العربي، ومؤكداً أهمية السيطرة على طرق الملاحة بين البحر المتوسط والهند
استخدامه لمصطلح "Middle East" جاء في إطار الكلام عن منطقةٍ استراتيجيةٍ تمتد بين الخليج العربي والهند، على اعتبار أنها تمثّل قلب النفوذ الإمبراطوري البريطاني. وكان يقترح أنَّ على بريطانيا أن تضمن الهيمنةَ على هذه المنطقة، بالتعاون مع القوى البحرية الأخرى، ولاسيما الولايات المتحدة
:"من “الشرق الأدنى” إلى “الشرق الأوسط”
الأوروبيون كانوا يستخدمون سابقاً، مصطلحَ "الشرق الأدنى" (Near East) ويُطلقونه على البلقان والأناضول وبلاد الشام ومصر، أي على تلك المناطق الأقرب إلى أوروبا، مقارنةً بالشرق "الأقصى" (Far East)، كالصين واليابان وكوريا. ما يعني أنَّ تسمية "الشرق" بأجزائه المختلفة (الأدنى، الأوسط، الأقصى) لم تكن نتيجة موقعٍ جغرافي دقيق، بل كانت نابعةً من زاويةِ الرؤية الأوروبية الاستعمارية للعالم، حيث تُعدُّ أوروبا مركزاً، وما عداها يُوصَف بحسب بُعده أو قُربه منها
ولسنواتٍ طويلة، ظلَّ مصطلحُ "الشرق الأوسط" (ويُقصد به منطقةً تشمل الخليج وبلاد الشام ومصر وإيران، وأحياناً شمال إفريقيا) مفهوماً نخبوياً واستراتيجياً محصوراً في الدوائر السياسية والعسكرية الغربية، وخاصة البريطانية والأمريكية، ويُستخدم في التقارير العسكرية، والدراسات الجيوسياسية، ووثائق الاستخبارات
:الحربُ العالمية الثانية والتحوُّلُ الأميركي
في العام 1944, وأثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتحضَّر لوراثة النفوذ البريطاني/الفرنسي في المنطقة، وكانت ترى أنَّ "الشرق الأوسط" سيصبح محوراً للطاقة (النفط) وممراً استراتيجياً بعد الحرب، لذلك أسَّست "مكتب شؤون الشرق الأدنى وأفريقيا" في الخارجية الأمريكية، الذي تغيَّر اسمه لاحقاً ليصبح "مكتب شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وأفريقيا". وفي الوقت الذي انتشر مصطلح "الشرق الأوسط" Middle East في الإعلام والسياسة العامة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، ظلَّ مصطلحُ "الشرق الأدنى" Near East هو المعتمد رسمياً على المستوى البيروقراطي حتى اليوم
بعد تأسيس حلف بغداد (1955)الذي جمع دولاً ضمن "الشرق الأوسط" في مواجهة الاتحاد السوفياتي، بدأ المصطلح يتسرب إلى الخطاب الإعلامي والسياسي العربي، ولكن كان يُنظر اليه بشيءٍ من الريبة أو اللامبالاة، لأنه بدا كتصنيف مفروضٍ من الخارج
:"من “الشرق الأوسط” إلى “الشرق الأوسط الجديد”
"كونداليزا رايس، وزيرةُ الخارجية الأميركية في عهد جورج بوش الابن، كانت من أبرز الشخصيات التي تحدثت صراحةً عن "الشرق الأوسط الجديد"(New Middle East) و"إعادة تشكيل خارطة المنطقة"، وذلك في سياق غزو العراق (2003)، والضغط على أنظمة المنطقة لتغيير سياساتها أو حتى هياكلها. وكذلك استخدمت نفس التعبير خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان (2006) وقالت حينها إنَّ ما يحدث هو مخاضُ ولادةِ شرقِ أوسطٍ جديد
بالطبع، رايس لم تصُغ المصطلح من العدم، بل استعملت عبارةً كانت متداولة في مراكز أبحاث أمريكية وإسرائيلية منذ التسعينيات، ولكنها كانت أول مسؤولٍ أمريكي رفيع المستوى يُصرّح بها علناً، وذلك كجزء من السياسة الخارجية الأمريكية في سياق "نشر الديمقراطية" و"محاربة الإرهاب"، بينما كانت خلفيتها الحقيقية تخدم مشاريع التفكيك والسيطرة.
وإذا كان مصطلح “الشرق الأوسط” يُستخدم قبل العام 2003 في إطار جغرافي/استراتيجي/استعماري/اقتصادي (النفط، الصراع العربي/ الإسرائيلي، الحرب الباردة…)، إلا أنه بعد العام 2006 أصبح مصطلحُ "الشرق الأوسط الجديد” يُستخدم - ولاسيما في أدبيات المحافظين الجُدد - مقروناً بمشاريع إعادة التشكيل والتقسيم و "الفوضى الخلاقة"، وهو المصطلح الذي استعملته كونداليزا رايس في مقابلةٍ مع صحيفة "واشنطن بوست" في العام 2005، لتبرير سياسة واشنطن في المنطقة. وهو يتلخص وفق الرؤية الأميركية، في أنَّ إسقاط الأنظمة وتفكيك البُنى القائمة، قد يخلق حالةً من “الفوضى” المؤقتة التي ستسمح ببناء أنظمةٍ جديدةٍ "أكثر ديمقراطية"
:الخرائطُ الجديدة والتقسيمُ الطائفي
في العام 2006 نشر "رالف بيترز" خريطةً شهيرةً في مجلة عسكرية أمريكية (Armed Forces Journal) بعنوان: "الحدود الدموية"
Blood Borders: How a Better Middle East Would Look تُعيد رسم حدود الشرق الأوسط، وفقاً للهُويات الطائفية والعِرقية. وبينما بقيت مقالةُ الأميرال ماهان محصورةً في النخب العسكرية والسياسية البريطانية والأمريكية. ولم تصل الى الجمهور العام، فإنَّ خريطةُ "بيترز" سرعان ما انتشرت في الإعلام العربي والعالمي، وأثارت نقاشاً واسعاً حول النوايا الأمريكية في تفكيك المنطقة
:توم برَّاك واستمرار الذهنية الاستعمارية
منذ عدة أيامٍ، صرَّح المبعوث الأمريكي "توم براك" بأنَّه "لا يوجد دولٌ في الشرق الأوسط، بل قرى وقبائل وأعراق متناحرة"، وهذا التصريح ليس توصيفاً بريئاً أو مرتجلاً ومتهوِّراً، بل هو امتدادٌ لخطابٍ استعماري قديم يبرر السيطرة والتقسيم والتدخل الخارجي، بذريعة "تمدين" المنطقة، أو حمايتها من نفسها. لأنَّ العرب حسب هذا الخطاب، هم شعوبٌ بدائية وهمجية تحتاج إلى تفكيكٍ وإعادةِ تركيب، عاجزةٌ عن بناء دولٍ، ولا تفهم إلا منطق العصبية والقبيلة والدين، والغربُ هو مَن أدخلها إلى عصر الدولة والنظام. وهكذا تصبح مشاريعُ “الفوضى الخلاقة”، وإعادةُ رسم الخرائط، ضروريةً، حسب هذا التصور السياسي الذي يعكس جوهر النظرة الاستشراقية الغربية منذ القرن التاسع عشر.
لقد تجاهل برَّاك عمداً، أنَّ المنطقة قبل سايكس بيكو، كانت مجتمعات أكثر ترابطاً سياسياً وثقافياً، ممَّا هي عليه الآن، وكانت جزءاً من فضاء حضاري ودول كبرى (الخلافة الأموية، العباسية، والعثمانية)، وأنَّ ما فعلته تلك الإتفاقية المشؤومة، هو تفكيكٌ قسري وتمزيقٌ للكيان الواحد، إلى دول قطرية ضعيفة تناسب مصالح القوى الاستعمارية.
:خاتمة - المصطلح كأداةِ هيمنة
إنَّ مصطلح "الشرق الأوسط" ليس مجرد "تصنيف أكاديمي”، بل هو تموضعٌ استعماري مركزي حديث جعل أوروبا في "مركز" العالم، وكل ما سواها نُسب إلى "الشرق" أو "الجنوب". وهو مصطلحٌ لم يكن موجوداً في التاريخ القديم، ولا يعبِّر عن الهُويَّة العربية أو الإسلامية، ولا يعكس هُويةً حضاريةً أو انتماءً تاريخياً. فالشرقُ هنا ليس اتجاهاً جغرافياً مطلقاً، بل وجهةُ نظرٍ أوروبية جعلت نفسها مركز العالم. ولو أخذنا الخريطة الكروية للعالم، لوجدناها (خصوصاً الهلال الخصيب ومصر والجزيرة العربية) تقع تقريباً في وسط العالم القديم، وتبدو كنقطة ِالتقاءٍ بين ثلاث قاراتٍ: آسيا، إفريقيا، أوروبا
وبالنسبة إلينا نحن العرب، فإنَّ بلاد الشام هي أقرب إلى" قلب العالم" القديم، من كونها في الشرق جغرافياً. فهذه المنطقة هي ذاكرةُ الإنسانية جمعاء، أرضُ البدايات والرسالات، منبعُ الشرائع والقوانين، مهدُ الأبجدية، وجذرُ الحضارات الانسانية (السومرية والأشورية والبابلية والآرامية والكنعانية والفينيقية والفرعونية والفلسطينية والمسيحية والاسلامية ...)، ودمشق هي أقدمُ مدينةٍ مأهولةٍ في التاريخ
لذلك، وعلى الرغم من شيوع استخدام مصطلح "الشرق الأوسط" في الإعلام العربي والدولي - بسبب تجذُّر النفوذ الغربي والمؤسسات الدولية التي تبنّتهُ - إلا أننا لا زلنا نعتبره مصطلحاً استشراقياً / استعلائياً يعكس منظوراً غربياً استعمارياً هدفه تفكيك المنطقة،
لتقاسم النفوذ حول الممرات البحرية والثروات النفطية والمناطق الحساسة التي هي المفتاح للهيمنة على العالم. والعربُ عندما يستخدمون مصطلح "الشرق الأوسط"، إنما يستبطنون - عن غير وعي- الرؤية الاستشراقية، ويعيدون إنتاج التوصيف الذي صاغه الغرب الاستعماري (اوروبا وبعدها امريكا) ليضع نفسه في المركز . لذلك، من الأجدر أن نطلق على منطقتنا تسمياتٍ تنطلق من هُويَّتنا وتاريخنا: بلاد الشام، الهلال الخصيب، الجزيرة العربية، الشرق العربي، العالم العربي، الوطن العربي. فالتحررُ من المصطلح ليس ترفاً لغوياً، بل خطوةٌ في استعادة وعينا التاريخي والجغرافي والحضاري
،إلا أننا لا زلنا نعتبره مصطلحاً استشراقياً / استعلائياً يعكس منظوراً غربياً استعمارياً هدفه تفكيك المنطقة
لتقاسم النفوذ حول الممرات البحرية والثروات النفطية والمناطق الحساسة التي هي المفتاح للهيمنة على العالم. والعربُ عندما يستخدمون مصطلح "الشرق الأوسط"، إنما يستبطنون - عن غير وعي- الرؤية الاستشراقية، ويعيدون إنتاج التوصيف الذي صاغه الغرب الاستعماري (اوروبا وبعدها امريكا) ليضع نفسه في المركز . لذلك، من الأجدر أن نطلق على منطقتنا تسمياتٍ تنطلق من هُويَّتنا وتاريخنا: بلاد الشام، الهلال الخصيب، الجزيرة العربية، الشرق العربي، العالم العربي، الوطن العربي. فالتحررُ من المصطلح ليس ترفاً لغوياً، بل خطوةٌ في استعادة وعينا التاريخي والجغرافي والحضاري.
Cookie Use
We use cookies to improve browsing experience, security, and data collection. By accepting, you agree to the use of cookies for advertising and analytics. You can change your cookie settings at any time.Learn More
Cookie Settings
Necessary Cookies
These cookies enable core functionality such as security, network management, and accessibility. These cookies can’t be switched off.
Analytics Cookies
These cookies help us better understand how visitors interact with our website and help us discover errors.
Preferences Cookies
These cookies allow the website to remember choices you've made to provide enhanced functionality and personalization.