طرابلس: سيرةُ مدينةٍ قُطِّعَت شرايينُها .. فاغتربت عن ذاتها
أ د. هلا رشيد أمُّون
EYE Contact لموقع
في التاريخ السياسي والاجتماعي، ليست المُدُنُ مجرد تجمُّعاتٍ عمرانيّةٍ، بل مراكزُ إنتاجٍ للقوّة والهُويَّة والقرار. وحين تفقدُ مدينةٌ ما، أدواتِ إنتاجها الاقتصاديّ، وتضعُف طبقتُها الوسطى، وتتلاشى قواها السياسيةُ المنظَّمة، فإنّها تفقدُ تدريجياً قدرتها على التأثير في محيطها، وتتحوّلُ من فاعلٍ إلى مفعولٍ به
وطرابلس هي المثالُ الأوضح على هذه القاعدة: مدينةٌ كانت القلبَ الصناعيّ والسياسيّ والثقافيّ للشمال، ونافذةَ لبنان على المتوسط والمشرق، تحوّلت بفعلِ عوامل متراكمةٍ إلى هامشٍ جغرافيٍّ وبشريّ داخل الجمهورية؛ إلى مدينةٍ مغتربةٍ عن ذاتها، فقدت أدواتها التي تصنع هُويّتَها، فأصبحت تُعرِّفُ نفسها بما تفتقده، لا بما تملكه
ففي التاريخ القريب، نافس مرفأُ طرابلس مرافئَ كبرى، واتّسعت صناعاتُها لتشمل الحديدَ والخشب والسجاد والنسيج والصابون والسُّكر والمشروبات الغازية. وكانت نقطةَ وصلٍ تجارية بين الداخل السوري والأسواق العالمية، ومركزاً ثقافياً وسياسياً حيوياً. ولكن خلال نصف قرنٍ، تحوّلت إلى مدينةٍ فاقدةٍ لوزنِها السياسيّ، مُهمَّشةٍ اقتصادياً، ومتروكةٍ لدوائر الفقر والتبعية، يُستَحضَر اسمُها في نشرات الأخبار كعنوانٍ للفقر أو الاضطراب الأمنيّ، لا كمحرّكٍ للاقتصاد أو السياسة
من الاقتصاد المُنتِجِ إلى سياسةِ الحرمانِ المُمَنهجة
ولفهمِ هذا التحوّل، يلزمُ تفكيكُ العوامل المتشابكة التي أوصلت إلى هذه النتيجة، والبحثُ عن الحلقات المفقودة، عبر قراءة تاريخها القريب، قبيل اندلاع الحرب (1975) وبعدَها، ومعرفةُ كيف فقدت المدينةُ أدواتها الأساسية
١ – تعطيلُ البنيةِ التحتيَّة الاستراتيجيَّة
انهيارُ البنيةِ الاقتصادية المُنتِجة في طرابلس، بدأ قبل الحرب اللبنانيّة، بفعلِ الإضرابات المتكرّرة (نتيجة صراعاتٍ نقابيةٍ/برجوازيةٍ)؛ والإغلاقِ المتكرّرِ للحدود (لبنان/سوريا/العراق)؛ وتعطُّلِ مصفاةِ النفط (بسبب إغلاق سوريا للأراضي التي يمرُّ عبرها خطُّ أنابيب كركوك/طرابلس، نتيجةَ توتراتٍ سياسية)؛ وانتقالِ الاستثمارات خارج المدينة
ومع اندلاعِ الحرب توقّفت المصانعُ الكبرى، وفقدَ المرفأُ دورَه الإقليميّ، وهاجر رأسُ المال الصناعي. فانتقلت طرابلسُ من اقتصادٍ منتج إلى اقتصادٍ استهلاكيّ هشٍّ غير قادرٍ على توليد فُرص العمل
دخلت المدينةُ في دوّامةِ صراعٍ داخليّ وإقليميّ، شهدت فيها احتلالاتٍ وسيطرةَ فصائل متعدّدة، من الجيشِ السوري إلى تنظيماتٍ فلسطينيةٍ وإسلامية. ثم أُضيف إلى تفكّكِ البنية الاقتصادية المُنتِجة - بفِعلِ تقاطعاتِ مصالحَ سوريةٍ/بيروتيةٍ/طرابلسية - إجهاضُ مشاريعَ استراتيجيةٍ وروافعَ اقتصاديةٍ وتنموية وثقافية مُهمّة
معرضُ رشيد كرامي الدولي: صمَّمَهُ المعماريّ البرازيلي أوسكار نيماير، وكان يمكن أن يتحوّل إلى رئةٍ اقتصاديةٍ وسياحية وثقافية للمدينة، لكنَّ اعتراضاتِ قِوى تجاريةٍ في بيروت على حصريةِ المعارض فيه، حوَّلتْه إلى كُتلٍ إسمنتيّةٍ صامتة
مطارُ القليعات (رينيه معوض): نافذةٌ جويّةٌ للشمال، وربطٌ محتملٌ بالداخل السوري والعراقي. تشغيلُه مُجمَّدٌ منذ عقودٍ، وسط ضبابيّةٍ متعمَّدة في هُويّةِ المعرقل (النظامُ السوري/حزبُ الله/حمايةُ احتكار مطارِ بيروت)
مرفأُ طرابلس: لم يُسمَح بتوسعته لسنواتٍ، حمايةً لمرفأ بيروت. لأنَّ كلَّ تعزيزٍ لاقتصاد طرابلس، يُنظر إليه على أنه تهديدٌ مباشر لاحتكار العاصمةِ ومحيطها للنشاط البحري والتجاري. فالمدينةُ لا يحقُّ لها أن تمتلك منفذاً بحرياً منافساً
المنطقةُ الاقتصادية: أُقرَّ إنشاؤها في العام 2008 لجذب الاستثمارات وخلق نموٍّ مستدامٍ ومتوازن، لكنَّ عملَها عُرقِلَ بفعلِ اعتراضاتٍ من قِوى سياسية واقتصادية نافذة، خشيت أن تُهدّد التركيزَ التقليدي في بيروت (ومعها جبل لبنان) كمركزٍ حصري يستحوذ على غالبيةِ رؤوس الأموال، ويهيمن على النشاط الاقتصادي والمالي اللبناني
هذه الحالاتُ الأربعُ ليست مصادفاتٍ إداريّةً، ولا إهمالاً عَرَضيّاً، بل سياسةٌ مقصودةٌ لحرمانِ المدينة من أدواتها الكبرى للاتصال بالعالم، ومنعِها من بناءِ اقتصادٍ مستقلٍّ، وإبقائها خارج أيِّ منافسةٍ جدّيّة، وهو ما يُؤمِّن للعاصمة (السُنيَّة والمسيحية السياسية) تفوّقاً بنيوياً دائماً. وكلُّ ذلك لم يُواجَه بردِّ فعلٍ سياسيّ أو شعبيّ ضاغط، لأنّ البرجوازية التجارية والمصرفية البيروتية، كانت أقوى وأكثر نفوذاً من البرجوازية الطرابلسية؛ ولأنَّ المدينةَ كانت قد فقدت أدواتِ الدفاع عن نفسها
٢ – البرجوازيَّةُ الضعيفةُ التابعةُ للمركز
النخبةُ البرجوازيّةُ المحلية اندمجت في السلطةِ، واصطفّت مع المركز بحثاً عن حمايةٍ ماليةٍ ومصرفية، وتخلّت عن بناءِ لوبي سياسيّ واقتصاديّ ورأسماليّ محليّ للمدينةِ، يربط رِبحَه بازدهارِ طرابلس نفسِها. وبعضُها ترك طرابلس ليسكن في مناطق أخرى، بحجّة أنّ المدينةَ قد “تريَّفت” ولم تَعُد تُشبِهُ نفسها. والبعضُ الآخر احتفظ بمؤسَّساتِه الربحيّة في طرابلس، لكنّه انفصل نفسيّاً عنها، وأصبح غيرَ مكترثٍ بمشاكلِها وأزماتها، وغيرَ مستعدٍّ حتى لزرعِ وردةٍ أو شجرةٍ، أو لإضاءةِ لمبةٍ، أو لطلاءِ جدارٍ فيها. لقد بات يتعاملُ مع المدينةِ بمنطقِ السوق والربح والإنتاج، لا بعاطفةِ المحبّة والولاء والانتماء
٣ – ذوبانُ النخبةِ الثقافيَّة
ثقافيّاً، كانت المدينةُ قبيل الحرب تنتج مفكرين وأدباء وعلماءَ دينٍ وصحافيين لهم شأنٌ كبير. المثقفُ الطرابلسيُّ كان جزءاً من معركةِ الأفكار، سواءٌ في مواجهةِ الاستعمار أو في مناقشةِ قضايا النهضة والهُويَّة والعدالة الاجتماعية. وكانت طرابلس تعجُّ بالحياة السياسية والفكرية، وتشهد حضوراً قويّاً للأحزاب القومية واليسارية التي كانت تمتلك برامجَ واضحةً وقواعدَ شعبيةً منظّمةً وقادرةً على التعبئة والضغط، ومؤسساتٍ إعلاميةً ونقابية، وشبكاتِ علاقاتٍ محلّية وإقليمية
بعد انتهاء الحرب، ذابت النُخبُ الثقافيّةُ في شبكات السلطة المركزية، أو في مؤسسات الدولة، أو تحوّلت إلى جزءٍ من المنظومة الزبائنية، أو صمتت وانسحبت من الساحة، أو هاجرت. وهكذا تعطّلت “الحراسةُ الرمزيّةُ” لهُويَّة المدينة، وغاب المُثقَّفُ العضويّ الذي يُنتج خطاباً مستقلاً ويُعبِّر عن مصالحها. وطبقاً لغرامشي، حين تفقدُ جماعةٌ ما، أدواتِ إنتاجِ خطابها المستقل، فإنّها تستبطنُ خطابَ القِوى المهيمنة، وتتحوّل إلى طرفٍ تابعٍ.
وطرابلس تمثّل هذه الحالة: خطابُها السياسيُّ أصبح انعكاساً للمركز، وقراراتُها تصدر من خارجها، وما تبقّى من الأحزاب تراجع إلى أطرٍ انتخابيّةٍ موسميّةٍ، أو ذاب في تحالفاتٍ مصلحية
٤ – تفريغُ المدينةِ من أدواتِ الضغط لمصلحةِ رجالِ الأعمال
غيابُ النُخبِ السياسية والثقافية الفاعلة، تفكّكُ الأحزاب، استلابُ النقابات، انحسارُ العمل الأهليّ المنظَّم، وضعفُ المجتمع المدنيّ الضاغط، كلُّه جعل مشكلاتِ المدينة البنيوية والاقتصادية تتراكم وتتفاقم بلا أدنى مواجهة. وقد أنتج ذلك فراغاً ملأته الزبائنيّةُ السياسية، بعد وصولِ نماذجَ جديدةٍ إلى الساحة، أغلبها رجال أعمال وبيزنيس دخلت السياسةَ من بوّابة الصفقات وميزان الربح والخسارة، لا من بوّابةِ مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا جرى التعاملُ مع طرابلس كخزانٍ انتخابيّ تُشترى ولاءاتُه الموسميّةُ بأثمانٍ بخسة، بدل أن تكون السياسةُ أداةَ ضغطٍ لحمايةِ مصالح المدينة والدفاع عن حقوقها
طرابلس: اغترابُ الهُويَّة وانكسارُ الدور
اغترابُ طرابلس عن هُويَّتِها، ليس قضاءً ولا قدراً، بل نتيجةُ تراكماتٍ تاريخية، وقرارتٍ سياسية واقتصادية
وكل ذلك لم يكن ارتجالاً اتخذتها مرجعياتُها المتواطئة والخاضعة لنفوذ قِوى في العاصمة. ومأساتُها لم تصنعها الحربُ أو الفقرُ أو الزبائنيّةُ أو بيعُ الأصواتِ، بل هي نتيجةُ عمليةِ نزعٍ منهجيّ لعناصر القوّة، عبر ثلاثِ آليّاتٍ متداخلة: تجفيفُ القاعدة المُنتِجة واستبدالُها باقتصادٍ ريعيٍّ يفتّتُ المجتمع. تفكيكُ أدواتِ التنظيم والتمثيل (الأحزاب/النقابات/المجتمع المدني) وإحلالُ الزبائنيّةِ الفردية محلَّها. تعطيلُ المرافق الاستراتيجية (معرض/مطار/مرفأ/منطقة اقتصادية) لإفقارِ المدينة وترسيخِ ذهنية القطيع الذي يُساق إلى حتفه دون مقاومة أو مساءلة. وكلُّ ذلك لم يكن ارتجالاً عفويَّاً، بل سياسةٌ ممنهجةٌ دمَّرت البنيةَ التحتية واغتالت فُرصَ النهضة، ومارست "الهيمنةَ الناعمة" على الوعي، عبر إعادةِ تعريف المدينة بوصفها "هامشاً" أو "منطقةً طَرفيَّة"، ومحاولةِ إقناع أبنائها بأنَّ هذا هو “مكانُها الطبيعيّ”، وأنَّ عليهم تقبُّل تراجع دورها ومكانتها، باعتباره أمراً عادياً
نعم .. أزمةُ طرابلس المستفحلة، ليست قدراً جغرافياً ولا لعنةً تاريخية، واستعادةُ المدينةِ لدورها ممكنةٌ، ولكنها مشروطةٌ بالبدء بإحياء اقتصادٍ منتج، وإعادة ضخِّ الدماء في شرايينها ومرافقها الحيوية، وكسرِ احتكارِ القرار التنمويِّ في بيروت وجبل لبنان، وإحياءِ نُخبةٍ سياسية وثقافية مستقلّة قادرة على خلقِ رأي عام محليّ ضاغط، وإنتاجِ سرديّةٍ مضادّةٍ للهيمنة الناعمة، تُعيد تعريفَ المدينةِ كفاعلٍ وشريك، لا كهامشٍ وملحق.
وما لم يحدث ذلك، ستبقى طرابلس مدينةَ “الموتِ السريريِّ” الإنمائيّ، التي تنتظرُ نهضةً لا تأتي، وتظلُّ حاضرةً فقط في نشرات الفقر - كأفقرِ مدينةٍ على المتوسّط - لا في معادلات القوّة والإنتاج
