يا قداسةَ البابا .. لا تُبارك تُجَّارَ الهيكل
أ. د. هلا رشيد أمون
EYE Contact لموقع
مرحباً بقداستكم في لبنان، في هذه الأرض التي أنهكتها المِحنُ وتراكمت عليها الخيباتُ. أرضٌ ما زال شعبُها يتشبّث بالرجاء وسط عتمةٍ طال أمدها
في الاحتفال المقام لاستقبالكم، سوف تلمحون في الصفوف الأمامية وجوهاً قد يظنّ الناسُ أنّها جلست هناك تكريماً لإنجازاتٍ حقَّقها أصحابُها، أو لمسؤولياتٍ حملوها يوماً. لكنَّ الحقيقة يا قداسة البابا أكثر مرارةً ممَّا يبدو للعين
ستجدون زعماءَ طائفيين وأصحابَ سلطةٍ غذّوا الفتن، وسرقوا قوتَ الفقراء، وبدَّدوا خزينة الدولة؛ ازدادوا ثراءً وازداد شعبُهم جوعاً وستجدون أصحابَ مصارف صادروا أحلام الناس واعتدوا على جنى أعمارهم بلا رحمةٍ ولا خشيةٍ من حسابٍ أو عقاب.
ستجدون قضاةً انطفأ في قلوبهم نورُ الحقّ، فباعوا ميزان العدل بثمنٍ بخس. وضبّاطاً خانوا قَسَمهم، فانتقلوا من حمايةِ الأبرياء إلى حمايةِ المتسلّطين، ومن حرّاسٍ للحقّ إلى حرّاسٍ للظالمين. وستجدون بين الحضور، مَن راكم ثروته من فقر الناس، ومَن شيَّد قصوره من انهيار وطن، ومَن صعد إلى المنابر لا ليرفع كلمة الحقّ، بل ليتاجر بالخوف
هؤلاء يا قداسة البابا، لم يأتوا احتراماً لكم، ولا توقيراً لرسالتكم، ولا رغبةً في الإصغاء لعظتكم، ولا بحثاً عن تطهُّرٍ أو غفرانٍ أو نفحةٍ من قداسة؛ بل لأنَّهم يبحثون عن صورةٍ يعيدون بها إنتاجِ سلطتهم على أتباعهم
سيأتونكم بأثوابٍ نُسجت من الرياء،وبقناعٍ من التواضع الزائف، بينما تختبئ في صدورهم جبالٌ من الكبرياء والغطرسة
سيتكلمون معكم بنبرةٍ من الخشوع والوقار، ويتظاهرون أمامكم بالفضيلة والإيمان، فلا تصدقهم لأنهم بعيدون كلَّ البُعد عن الله، فقد جعلوا المال والسلطة معبودهم الأول والوحيد
وسيتسابقون لالتقاط الصور إلى جانبكم، ليوحوا بأنَّ “لبنان الرسالة" يحتضنكم، وهم أنفسهم مَن شوَّه الرسالة، وانتهك حُرمةَ العيش المشترك، وهدم المعبدَ، وحوَّل الهيكل إلى سوقٍ للبيع والشراء والتربُّح وتكديس الثروات
حضرة البابا ليون الرابع عشر المحترم
لستَ أولَّ حبرٍ أعظم يزور لبنان، فقد سبقكَ الى زيارته البابا يوحنا بولس الثاني في العام ١٩٩٧، والبابا بنديكتوس السادس عشر في العام ٢٠١٢. وقد تضمنَّت الزيارتان رسائلَ روحية تحثُّ على المصالحةِ الوطنية وهدمِ جدران الخوف وتعزيزِ الوحدة الداخلية، وتؤكد أنَّ لبنان أكثر من بلدٍ، إنه "رسالةُ حُريةٍ وعيشٍ مشترك". ولكنَّ ساسةَ لبنان كعادتهم، استغلوا كلماتِ الرجاء والأمل، وحوَّلوها الى شعاراتٍ جوفاء يردِّدونها لتخدم مصالحهم
لذلك ..لا تدخل الهيكل اللبناني فاتحاً قلبك وذراعيك لتجّار الهيكل، فهُم غيرُ مستحقّين. وهيكلُهم صار مغارةً للّصوص
لا تصافحهم، فسوف يعتبرون المصافحةَ صكَّ براءةٍ وتبييضاً لصفحاتهم السوداء
لا تستمع إلى كلماتهم اللطيفة، فقد جفّت ينابيعُ الرحمة من أفواههم
لا تمنحهم البَرَكة، فالبَرَكةُ تُعطى للمنكسرين والمعذَّبين، لا لِمَن اغتصب خبز الأرامل والمرضى والعُمّال
لا تُصغِ الى اعترافاتهم، فالاعترافُ بدايةُ يقظةٍ وتوبة، وهؤلاء لم يعرفوا بابَ التوبة يوماً، فقد قَسَت قلوبُهم
"فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً"
قُل لهم الحقيقةَ الفاضحة كما قالها الأنبياءُ من قبل: “لقد أحرقتم الحقولَ، وجفّفتم ينابيعَ الرحمة، وسرقتم قمحَ الفقراء، وأغلقتم أبواب الشفاء بوجوه المرضى، … فلا تتظاهروا بالتقوى"
عاتبهُم، أنِّبهُم، وَبّخهُم، وردِّد على مسامعهم ما قاله السيدُ المسيح للمرائين في زمانه: "ويلٌ لكم أيها الكتبةُ والفريسيون المراؤون، فإنكم تشبهون قبوراً مبيّضة، تبدو من الخارج جميلة، ولكنها من الداخل مملوءةٌ عظامَ أمواتٍ وكلَّ نجاسة. هكذا أنتم أيضاً: في الظاهر تبدون للناس أبراراً، ولكنكم في الداخل ممتلئون رياءً وإثماً"
ذكّرهُم بأنَّ الوطن أمانةٌ لا غنيمة وأنّ السلطة خدمةٌ لا مُلكاً. وأنَّ الإنسانَ قيمةٌ لا رقماً في صندوق الاقتراع. وأنَّ الأوطانَ لا تُبنى بالاستقواء والاستعلاء والغَلَبة، ولا تُدارُ بالأحقاد الطائفية، ولا تُصانُ بالعصبيات القبائلية
وأنَّ اللهَ لا يباركُ ولا يغفرُ لِمَن شيَّدَ عرشه على أنين المستضعفين والمقهورين، مهما كان دينه وطائفته
قُل لهم بلسانِ الأنبياء،: “ويلٌ لرؤساءٍ جعلوا من الوطن ميراثاً يُقتسم، ومن الإنسان سلعةً تُباع وتُشترى. وويلٌ لقضاةٍ نزعوا ميزانَ العدل عن أعناقهم ووضعوه تحت أقدام الأقوياء. وويلٌ للجنود الذين صار سيفُهم على رقابِ الأبرياء، وسلاحُهم في خدمةِ المتجبِّرين"
أمّا نحن، الشعب الذي لا يزال واقفاً يقاوم اليأسَ والقنوط، فنطلبُ منكم أن تصلّوا من أجل الفقراء الذين يأكلون الخبز اليابس بصمتٍ. ومن أجل المرضى والمُسنِّين الذين ماتوا على أبواب المستشفيات. ومن أجل الشباب الذين حملوا آمالهم وخيباتهم في حقائب السفر وهاجروا مُكرهين تاركين خلفهم وطناً مذبوحاً. ومن أجل مئات آلاف المودعين الذين يموتون كلَّ يومٍ مرتين: مرّةً حين يرون جنى عمرهم محتجزاً في المصارف، ومرّةً حين يسمعون مَن سرقهم يتحدّث عن “الإصلاح”. ومن أجل كلِّ مظلومٍ يقف كلَّ ليلةٍ أمام الله ويهمس “إلى متى؟"،
اطلبوا من الله يا قداسةَ البابا، أن يُقوِّي هذا الشعب في وجه طُغاته وجلَّاديه، وأن ينزع عن لبنان ثوبَ الذلّ والمهانة الذي ألبسونا إيَّاه
نحن لا نطلب معجزاتٍ، بل نطلب عدلاً وأمناً، وفسحةَ حياةٍ تشبه حياة البشر الآخرين، وأن نستعيد حقّنا البسيط والمشروع في العيش بسلامٍ وكرامة. فنحن شعبٌ تَعِب كثيراً وأرهقته الأحمالُ، ويستحقُّ نعمةً من الله تُهديه قليلاً من السلام . ونؤمنُ أنَّ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ، وليس غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ
