· مقالات

في لبنان.. أزمة قيادات أو أزمة سياسات؟

بقلم: د. عبدالرزاق القرحاني

EYE Contact لموقع

ليست القيادة تفصيلاً عابراً في حياة الأمم، ولا هي مجرد مهارة إدارية لإدارة شؤون الدول

القيادة، في جوهرها هي العامل الأكثر تأثيراً في رسم مصير المجتمعات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً . فبين مجتمع ينهض رغم قلة موارده، وآخر ينهار رغم وفرة إمكاناته، تقف القيادة كخط فاصل بين التقدم والتراجع

في بعض التجارب الغربية، تعكس القيادة فهماً بعيد المدى، حيث تُدار السياسات وفق خطط واضحة، وتُحمى الأسواق بقوانين نافذة، ويُستثمر في الإنسان باعتباره الثروة الأهم في كل قضية . لذلك، تبقى هذه الدول قادرة على امتصاص الصدمات والعودة إلى النمو. حتى في لحظات الانكماش أو الأزمات العالمية

وفي بعض الدول الشرقية، تأخذ القيادة شكلاً مختلفاً. فالمركزية والانضباط هما السمتان الغالبتان، مع تقديم التنمية والاستقرار على الحريات السياسية

وقد أثبت هذا النموذج قدرته على تحقيق قفزات اقتصادية كبرى حين اقترنت السلطة بالكفاءة والرؤية -كما هي في تجارب الصين وسنغافورة- غير أن نجاح هذا النمط يبقى مشروطاً بعدم تحوّل المركزية إلى تسلّط دائم يفرغ الدولة من حيويتها

أما في لبنان، لا يمكن فصل الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية عن أزمة القيادة

فما يعيشه البلد منذ سنوات ليس قدراً جغرافياً ولا فقط نتيجة ظروف إقليمية طارئة، بل حصيلة نمط قيادي فشل في تحويل الدولة إلى مشروع جامع، ونجح في تحويلها إلى ساحة نزاع دائم بين الطوائف والمصالح

منذ اتفاق الطائف، أُعيد بناء النظام السياسي على قاعدة التوازن لا على قاعدة الحوكمة

تحوّلت القيادة من دور وطني جامع إلى وظيفة طائفية، وأصبح الزعيم ممثلاً لجماعته وأنصاره قبل أن يكون مسؤولاً عن الدولة وراعياً لرعيته وبدل أن تكون المؤسسات ضامنة للاستقرار، جرى تفريغها لمصلحة التسويات، فضعفت الدولة وقويت الزعامات

سياسياً، عانى ويعاني لبنان من غياب القيادة القادرة على اتخاذ القرار. السلطة موزعة، لكن المسؤولية ضائعة

لا حاكم يُحاسَب ولا مؤسسة تُسأل. الشلل بات القاعدة، والفراغ وسيلة للضغط، والدستور مادة للخلاف لا مرجعية للحكم

في هذا الواقع، اصبحت الدولة عاجزة عن إدارة أبسط الملفات، بدأً من مواكبة الاستحقاقات الدستورية وصولاً إلى تأمين الخدمات

وجاء الانهيار المالي ليشكل أوضح دليل على فشل القيادة. التي كانت منذ عقود، تدير الاقتصاد بعقلية الريع والديون، لا الإنتاج والتنمية. جرى تغليب المصالح السياسية على أبسط القواعد الاقتصادية، فانهارت العملة، وتبخرت الودائع، ودفع المواطن وحده ثمن سياسات لم يكن شريكاً في قرارها

لم يكن الانهيار حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة طبيعية لقيادة تجاهلت التحذيرات وراهنت على الوقت والتسويات

وعلى المستوى الاجتماعي، ترك هذا الفشل آثاراً عميقة

فتآكلت الطبقة الوسطى، واتسعت رقعة الفقر، واندفع الشباب نحو الهجرة بحثاً عن كرامة وفرصة. ومع غياب الأفق، انكفأ المواطن عن الشأن العام، أو لجأ إلى طائفته بحثاً عن حماية واستقرار، ليعكس هذا المشهد انهيار العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها

لم تفشل القيادات اللبنانية في إدارة الدولة فقط، بل فشلت في إدارة الاختلاف. فالخلاف السياسي تحوّل إلى صراع وجودي، والتنوع الذي كان يفترض أن يكون مصدر غنى، أُسيء استخدامه ليصبح أداة تعطيل وانقسام. وبدل أن تكون القيادة جسراً بين المكونات، تحوّلت إلى متراس بينها

لبنان لا يفتقر إلى الكفاءات ولا إلى الموارد البشرية، لكنه يفتقر إلى قيادة تؤمن بالدولة لا بالمحاصصة، وبالمؤسسات لا بالصفقات، وبالرؤية المستقبلية لا بالمكاسب الآنية

قيادة تدرك أن الطائف كان محطة لتنظيم الخلاف، لا ذريعة دائمة لتعطيل الدولة واقامة الأحلاف، وأن اللامركزية وسيلة إنماء لا مدخلاً لتكريس الانقسام. قيادة تبني المؤسسات لا الأمجاداً الشخصية. قيادة تستثمر في الإنسان وتخضع للعدالة والقوانين المرعية

الخروج من الأزمة اللبنانية لا يبدأ بخطط إنقاذ مالية فقط، بل بإعادة تعريف معنى القيادة

قيادة تخضع للدستور، تحترم المؤسسات، وتعيد الاعتبار للمواطن كشريك لا كرقم انتخابي أو تابع طائفي

من دون ذلك، سيبقى لبنان عالقاً في حلقة الانهيار، مهما تعددت الحكومات أو تبدلت الوجوه والزعامات

هذه التجربة المريرة في هذا الكيان، فيه بيان لكل الأعيان والعيان. يؤكد أن أخطر ما يصيب الدول ليس الفقر ولا الانقسام، بل غياب القيادة القادرة على تحويل التنوع إلى قوة، والدولة إلى ملاذ. فالدول لا تنهار حين تخطئ مرة، بل حين تستمر في الخطأ من دون حسرة وعبرة

كل هذه التجارب تؤكد حقيقة واحدة، بأن الأمم لا تنهض بقوة حكامها، بل بقوة القواعد التي تحكمها

وان القيادة حين تكون رشيدة، تستطيع المجتمعات أن تتجاوز الأزمات مهما اشتدت. أما حين تكون القيادة عاجزة أو فاسدة، فإن الدول تسقط حتى لو امتلكت كل أسباب الثراء والقوة

في زمن التحولات الكبرى، لم يعد السؤال من يحكم؟ بل كيف نحكم؟

وهذا السؤال هو الامتحان الحقيقي لمستقبل مجتمعاتنا وبلادنا.