Return to site
· على مدار الساعة,مقالات

...اللبنانيون يترنَّحون بين الانهيار والانتظار

أ. د. هلا رشيد أمون

EYE Contact لموقع

يعيش لبنانُ اليوم، واحدةً من أحلك مراحله السياسية والمالية والاقتصادية. فالدولةُ تكاد تكون غائبةً عن هموم الناس، والمؤسساتُ تترنّح تحت وطأة التضخّم والإفلاس. والأزمةُ لم تعُد أزمةَ نظامٍ أو إدارةٍ فحسب، بل تحوّلت إلى مأساةٍ وطنيةٍ شاملة تطال كل بيتٍ وكل مواطن

لذلك، فإنَّ الأسئلة التي تطرح نفسها اليوم في لبنان، ليس فقط كيف تخرج الدولةُ من أزمتها؟ بل هل بقيت هناك دولةٌ حقيقيةٌ راعيةٌ تُعنى بحقوق مواطنيها وكرامتهم؟ وهل تحوّلت السياسةُ من وسيلةٍ لتنظيم الحياة، إلى لعبةٍ تُتقاذفُ خلالها الاتهاماتُ، وتتواجه الأجنداتُ، ولكنها لا تبالي بوجع الناس؟

فعلى الصعيد الاجتماعي، يعيش اللبنانيون في ظروفٍ مزرية: التضخّم يلتهم ما تبقّى من قدراتهم الشرائية. والمدّخراتُ التي جمعوها طوال أعوامٍ من الكدّ والعناء، نُهبت من المصارف بلا رادعٍ ولا محاسبة. الرواتبُ في القطاعين العام والخاص، انهارت قيمتها حتى بات الحدّ الأدنى للأجور لا يكفي لتأمين الطعام. أما أقساطُ المدارس والجامعات الخاصة، فحدِّث ولا حرَج، بعدما ارتفعت إلى مستوياتٍ خيالية أخرجت التعليمَ من متناول غالبية اللبنانيين

الكهرباءُ التي كانت حقّاً بديهيّاً، صارت عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطن الذي يجد نفسه مُضطراً لدفع فاتورتين: واحدة للدولة التي لا تؤمِّن التيار، وأخرى لأصحاب المولّدات الخاصة الذين يفرضون أسعاراً باهظة لا ترحم حتى على أفقر الناس

أما المودعون، الذين كانوا عَصَب الاقتصاد، فقد وجدوا أنفسهم أسرى مصارفهم، يترقّبون خططاً ماليةً جديدةً يُقال إنها ستقضي على جنى أعمارهم تحت عناوين خادعة مثل: “معالجة الفجوة المالية” و“إعادة هيكلة المصارف” و“الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”. يشعر هؤلاء أنَّ هناك مؤامرةً تُحاك ضدهم لشطب أموالهم، رغم الوعود الحكومية المتكرّرة بأنَّ “كلمة شطب” لن تَرِدَ في أيِّ خطة. ومع ذلك، تبقى الخسائر – أو بالأحرى السرقات – المُقدّرة بأكثر من ثمانين مليار دولار، عالقةً بين المصارف والدولة والمصرف المركزي، بلا أفقٍ قريبٍ للحلّ، ولاسيما أنَّ الوعود بتدفّق الاستثمارات والأموال الخارجية - خاصةً من دول الخليج - يبقى تحقيقُها مؤجّلاً ومرهوناً بما ستؤول إليه التسوياتُ الإقليمية والدولية. وهذا التأجيلُ يجعل معاناة اللبنانيين تمتدُ إلى أجلٍ غير معلوم

العهدُ الجديد، الذي رفع شعار محاربة الفساد والفاسدين، خيّبَ آمال الناس الذين لم يلمسوا أيَّ تغيير حقيقي على أرض الواقع. فكلّ ما يُقال عن الإصلاح والحوكمة ومكافحة الفساد، يبقى كلاماً فارغاً ومُعلّقاً في الهواء. إذ لا محاسبةً طالت الفاسدين، ولا مجرمين عوقبوا، ولا رؤيةً اقتصادية أُطلقت، ولا بوادر نهضةٍ ظهرت. كلُّ ما تغيّر هو الوجوه، أمَّا طريقةُ الحُكم فباقيةٌ على حالها: نكاياتٌ، محاصصاتٌ في التعيينات، ونظامٌ يعيد إنتاج نفسه، فيما البلاد تنحدر أكثر فأكثر نحو الهاوية

وبدل أن تتّجه الحكومةُ إلى معالجة قضايا المواطنين المعيشية، كزيادة الرواتب وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، ينشغل الجميعُ بملفّ خُطَّةِ الجيش لنزع سلاح حزب الله، في محاولةٍ للتغطية على غياب رؤيةٍ اقتصاديةٍ ومالية واضحة. وكأنَّ مصير الكهرباء والخبز والدواء والتعليم لا يعني أحداً، أو كأنها مسائل جانبية يمكن تأجيلها إلى ما لا نهاية

وفي خضم هذا المشهد المأزوم، لا يبدو أنَّ مَن هم في السلطة، قد استخلصوا العِبرَ من التجربة المريرة التي عاشها اللبنانيون منذ العام 2019. فالخلافاتُ بين الأقطاب والكتل النيابية، ما زالت تتعمّق وتزيد الشلل والانقسام، بدل أن تقدّم حلولًا. والقوى السياسية منشغلةٌ بالسجالات حول تعديل قانون الانتخاب وأصوات المغتربين، فيما الواقع الاجتماعي يزداد بؤساً، والفقرُ لم يعُد حكراً على فئاتٍ محددةٍ، بل أصبح ظاهرةً عامة

:بين نزعِ السلاح واستعادةِ الإنسان إلى قلب القرار السياسي

لا يخفى على أحدٍ أنَّ سلاح حزب الله تحوّل إلى نقطةٍ مركزيةٍ في المشهد اللبناني، وهو الذي استدرج العدوّ مراراً إلى أراضينا، وجلب الانكشاف والويلات والدمار على أهل الجنوب والبقاع وسائر الوطن. لذلك فإنّ نزعَ السلاح، وتفكيكَ منطق القوة الخارجة عن سلطة الدولة، هي مطالبُ أساسية لا يمكن تجاوزها، إذا أردنا استعادة السيادة الحقيقية والأمن المستدام.لكنّ أهمية هذا الملف الذي يشكّل جزءاً من معادلةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ أوسع، لا يجب أن تحجب عنّا الأزمةَ التي يعيشها اللبنانيون اليوم. أي أنَّ مسألةَ نزع السلاح ضرورةٌ سياسيةٌ وأمنية مُلحّة، لكن لا يجوز أن تتحوّل إلى ذريعةٍ لتأجيل إصلاحاتٍ ماليةٍ واقتصادية واجتماعية تمسّ حياة الناس اليومية. فالمواطنون لا يطلبون تنازلاتٍ في السيادة، بل يطالبون بأن تكون هذه السيادة أداةً لتحسين حياتهم: رواتب عادلة،نظامٌ صحي قوي، تعليمٌ مُتاح للجميع، كهرباء دائمة، بيئةٌ نظيفة، وعدالةٌ تُحاسِب الفاسدين والمرتكبين

نزعُ السلاح مطلبٌ لا تَفَاوض عليه، ولا قيام لدولةٍ دون القضاء على الكيانات الموازية التي تتغلغل داخلها وتهدّد سلطتها وسيادتها، لكنّ استعادة الدولة تقتضي خطةً مزدوجة: معالجة أمنية وسياسية، توازيها معالجة اقتصادية واجتماعية عاجلة. فالدولةُ القادرةُ لا تُبنى بالبيانات، بل بالثقة؛ ولا تُستعاد بالشعارات، بل بأن يصبح الانسانُ هو الأولوية المطلقة، أي بإعادته إلى موقعه الطبيعي في قلب القرار السياسي العام

:لا قيامَ لدولةٍ لا يكون الإنسانُ فيها أولويةً

الحقيقة أنَّ الوضع العام لا يبشّر بالخير، والإحباط يخيّم على اللبنانيين الذين فقدوا الثقة بكلّ وعود العهد الجديد المتلهّي بتوزيع الأوسمة. والسؤال الذي يتردّد على كلّ لسان: متى الفرج؟

ورغم الأهوال التي شهدها لبنان منذ العام 2019، يبدو أنَّ السياسيين يعيشون في عالمٍ منفصلٍ تماماً عن معاناة الناس، إذ لا يعنيهم سوى تسجيل النقاط في سجالاتٍ لا تنتهي، بينما المواطن يسقط كلّ يوم في دوّامةٍ من اليأس والخذلان، محروماً من أبسط مقوّمات الحياة، متروكاً ليواجه مصيره وحده، في وطنٍ منهوبٍ ومسروقٍ ومدمّر

لا دولةً حقيقيةً يمكن أن تُبنى، إذا استبدّت في أولوياتها معاركُ ذات طابعٍ رمزي أو استراتيجي على حساب حياة المواطن اليومية. فبناءُ الدولة يتطلّب أولًا رفعَ الناس من قعر اليأس، لأنَّ الأزمةُ التي يعيشها اللبنانيون ليست فقط أمنيةً أو سياديةً؛ إنها أزمةُ وجودٍ يوميٍّ شامل

والخلاصة: حين يتحوّل الإنسان إلى تفصيلٍ ثانوي في سياسةِ الدولة؛ وحين يُختزل العملُ السياسي في اتفاقٍ أو تسويةٍ أو قانون انتخابٍ، فإننا لا نعيش أزمة حُكمٍ فحسب، بل انهياراً في فلسفة الدولة نفسها. لذلك، إذا لم تتمّ إعادةُ الإنسان إلى مركز السياسة، وإذا بقيت القوى السياسية غارقةً في سجالاتها العقيمة، فإنّ الفرج سيظلّ مؤجّلاً، والناس ستبقى تدفع الثمن بصمتٍ، ووجعٍ لا ينتهي