كيف تحوَّلَ اللبنانيُ من ذاتٍ حُرّةٍ إلى ذاتٍ مُستَملكةٍ سياسياً؟
أ. د. هلا رشيد أمون
EYE Contact لموقع
تُطرحُ في لبنان معضلةٌ سياسية - أخلاقية لا تُختزل في الفساد ولا في الطائفية بوصفها بنى مؤسساتية راسخة؛ بل في نمطٍ وجودي يعيشه اللبناني، نمطٌ يجعل الفرد يتخلّى عن ذاته ويستبدلها بصورةِ زعيمه، حتى تصبح حياته امتداداً لذاتٍ أخرى تتحكّّم في وعيه ورغباته وأحكامه
المشكلةُ لا تكمن في طاعةِ الزعيم فقط، بل في حُبِّ هذه الطاعة. في استعداد الفرد للدفاع عن أخطاء زعيمه، وتبرير تناقضاته، وغفران خطاياه، حتى حين يعتدي على مصالحه وكرامته وحقوقه مراراً وتكراراً
والسؤال: كيف أنتج المجتمعُ اللبناني ذاتاً سياسيةً فاقدةً لحريتها، راضيةً بتبعيتها، وقادرةً على تبرير كلِّ تناقضاتِ وارتكاباتِ زعيمها؟
ولأنَّ الجواب يتجاوز السياسة إلى الأخلاق والفلسفة، يمكن الاستعانة برؤيتين فلسفيتين متكاملتين: نيتشه، والوجودية
نيتشه: أخلاقُ الضَّعف .. حين تُعادُ صياغةُ الطاعةِ كفضيلة
وِفقَ القراءةِ النيتشوية، تُلغى الحرّيةُ حين يتحوّل الضعفُ إلى منظومةِ قيمٍ تعيدُ تعريف العبودية كفضيلة، والطاعة كإيمان، والتبعية كوفاء
وهذه هي «أخلاق العبيد» التي يصنعها الضعفاءُ بوصفها انتقاماً نفسياً من الأقوياء. في المقابل، هناك «أخلاق السادة» التي يصنعها الأقوياءُ، وهي تحتفي بالقوة والجرأة والإبداع والتفرد
من هنا تصبح «إرادةُ القوة» ليست رغبةً في السيطرة فقط، بل رغبة في التجاوز والخلق، وهي ما يجب أن يقود «الإنسانَ الأعلى» الذي يتجاوز القيمَ التقليدية ويبتكر قيمه الخاصة بنفسه
الوجوديَّة: الحُريةُ كعبءٍ .. الهروبُ من الذات إلى سلطةٍ خارجية
وإذا كانت فلسفة نيتشه تشرح البنية الأخلاقية للخضوع، فإنَّ الوجودية تكشف بنيته النفسية. فهي تُظهر كيف يفقد الإنسانُ ذاته حين يتهرب من الحرية ويبحث عن سلطةٍ تعفيه من ثقل الاختيار ومسؤولية القرار
فالإنسانُ ـ كما ترى الوجودية ـ «محكومٌ بالحرية». وكلُّ فعلٍ يقوم به هو تعبيرٌ عن اختياره، ولذلك فهو مسؤولٌ عن نفسه والعالم. يبدأ الإنسانُ أخلاقياً حين يتحمَّل مسؤولية وجوده، لا حين يتبع نموذجاً خارجياً يُملي عليه ما يكونه
الاستلابُ الوجوديّ .. حين يختفي “الأنا” خلف صورة "الزعيم"
الوجوديةُ والنيتشوية تعبران عن قلق الإنسان الحديث، حريته، اغترابه، قلقه، وتدعوانه لتحمُّل مسؤوليته وخلق معنى لحياته، لا انتظار معنى يُمنح له. لكنَّ اللبناني يعيش نقيض هذا كله. فهو يُسلِّم وجوده لمركزٍ خارجي، للزعيم الذي يقرر عنه ما يجب أن يفكر وكيف يرى العالم. وبذلك لا يصبح تابعاً سياسياً فقط، بل تابعاً وجودياً فقد تخلّى عن مهمته الأساسية : أن يكون ذاته
في الحالة اللبنانية، يصبح فسادُ الزعيم جزءاً من منظومة الفرد الأخلاقية نفسها. فالزعيمُ لا يُقدِّم خدماتٍ فقط؛ بل يمنح الفردَ «سرديةً وجوديةً» تبرِّر ضعفه، وتحوِّل عجزه إلى هُويَّةٍ. وعندما تصبح السرديةُ جزءاً من الهُويَّة، يصبح المسُّ بها مسَّاً بالفرد ذاته. وهنا يظهر أحدُ أخطر أشكال «أخلاق العبيد»: تزيينُ الخضوع بوصفه وفاءً، وتمجيدُ التبعيةِ بوصفها قيمةً أخلاقيةً عُليا
ولكن كيف يتشكّل هذا الكائنُ المُستَملك أو المُستتبع وجودياً؟
لا يتشكّلُ عبر القوة وحدها، بل عبر بناءِ واقعٍ جديد. فالزعيمُ يعيدُ تعريفَ الحقائق بحيث تصبح كل معلومةٍ لا تخدمه مؤامرةً، وكلُّ نقدٍ خيانةً، وكلُّ مساءلةٍ استهدافاً. وهو يحدِّد للتابع خصومه وحلفاءه، ويفسّر له الأحداث، ويعرِّف له الوطنيةَ والعمالةَ والخيانة
وهكذا تظهر «الذاتُ المُستَملكة»: ذاتٌ منزوعٌ جوهرها، ترى العالمَ عبر وسيطٍ يقرر عنها ما تغضب له وما تصفق له، مَن تحبُّ ومَن تعادي
الزعيمُ كأبٍ رمزي: صناعةُ التابعِ الطائفي
يمكن فهمُ الدور الذي يلعبه الزعيمُ في المخيال الجمعي اللبناني، ليس كقائدٍ سياسي فحسب، بل كأبٍ رمزي داخل البنية الطائفية. فاللبناني لم يتخلّ عن حريته دفعةً واحدة، بل عبر عدةِ مراحل: حرمانٌ مُزمنٌ يولّد العجز، ثم عجزٌ يولّد الحاجة، ثم حاجةٌ تتحول إلى تبعيةٍ مكتملةٍ تبرِّر نفسها أخلاقياً، وإلى ولاءٍ مطلقٍ يبرِّر تعصبَّه سياسياً
هنا يدخل الفردُ في صفقةٍ : يتخلى عن حُرّيته وعقله النقدي مقابل شعورٍ بالحماية والانتماء. لهذا يخشى «الفراغ» إذا غاب الزعيمُ/ الأبُ أو انهار، لأنَّ سقوطه يعني سقوط «المعنى» الذي بناه الفرد لنفسه
وتكتملُ العبوديةُ حين تصبح خيانةُ الزعيم خيانةً للطائفة. الطائفةُ التي تتحوَّل إلى هُويَّةٍ دفاعيةٍ تُشرعنُ الخضوع للزعيم، على الرغم من أنَّ هذا الزعيم الذي يُعشَق قد سرق أموال اللبنانيين، وأفلس دولتهم، ودمّر مؤسساتهم وأهدى ثرواتهم للأعداء، وأدخلهم في حروبٍ ومواجهاتٍ لا تنتهي، وتركهم دون ماءٍ أو كهرباءٍ أو ضمانٍ أو أدنى مقوماتِ الحياة الكريمة
فالزعيمُ الطائفي لا يمنح حقوقاً، بل امتيازات. يعطي «الفُتاتَ» ليحوّل الحاجةَ إلى ولاء، ويحصد الامتنان والشُكر عمّا كان يجب أن يكون حقَّاً أصيلاً للأتباع. وهذه صورةٌ متأخرةٌ من «إرادة القوة» : أن تجعل الآخرين بحاجةٍ إليك لأنك احتكرتَ ما هو ملكهم
ولكن لماذا يُحبُّ العبدُ سيّدَه، ولا يكتفي بالخضوع، له؟
لأنَّ الحريةَ ثقيلةٌ. الاختيارُ صعبٌ، المسؤوليةُ مُرهقةٌ، ومواجهةُ الذات بالمراجعة والنقد مؤلمةٌ. لذلك يبحث الفردُ عن سلطةٍ تفكر عنه، تخطط له، تمنحه هُويَّةً جاهزةً، وتحميه من مواجهةِ ضعفه الداخلي. وهكذا ينتخبُ اللبنانيُ زعيمه كلَّ أربع سنواتٍ، لا لأنَّ زعيمه قد تغيّر، بل لأنه هو لم يجرؤ أن يتغيّر
لم يسأل نفسه: لماذا ازداد الزعيمُ ثراءً وازددتُ فقراً ؟ ولماذا عاش أولاده في بحبوحةٍ ورفاهٍ بينما عاش أبنائي في حرمانٍ وعوز ؟ ولماذا جعله صوتي في صندوق الاقتراع زعيماً وأبقتني سلطتُه السياسية مُحتاجاً الى إعانةٍ ماليةٍ أو غذائيةٍ أو استشفائية؟ ولماذا انهارت الدولةُ وازدهرت ممالكُ الفساد؟
انطلاقًا من هذا الواقع، يصبح المشهدُ اللبناني نتيجةَ العديد من العوامل السياسية - الاقتصادية - التاريخية - الأمنية، مختبراً صارخاً لانهيار الأخلاق في بُعدَيها النيتشوي والوجودي معاً ؛ إذ يعيش اللبناني تحت وطأةِ منظومةٍ من الولاءات الطائفية التي تصادر إرادته، وتُشوِّه وعيه، وتحوّله إلى تابعٍ أعمى، يرفع زعيمَه إلى مرتبةِ الآلهة، ويهبط بنفسه إلى مرتبةِ العبدِ الراضي بسلاسله، السعيدِ بأغلاله
الثورةُ الداخليةُ أولًا .. مواجهةُ أخلاقِ العبيد
بناءً على هذا المسار التحليلي، يمكن القول إنَّ مشكلة اللبناني ليست في الفساد فقط، ولا في النظام الطائفي وحده، بل في البنية الأخلاقية والوجودية التي تجعله قادراً على محبَّةِ سَجَّانه وتقديسِ جلاده والدفاعِ عمَّن دمَّر حياته ووطنه
ولا يمكن تفكيكُ هذه البنية إلا بتحرير الذاتِ من الداخل، من «أخلاق العبيد» التي تقدِّسُ الطاعةَ وتمجِّدُ الخضوعَ والتبعيةَ، وتعيدُ تسميةَ الرذائل بأسماء الفضائل
ذلك أنَّ أخطرَ أصنافِ «العبودية» هي تلك التي يختارها الإنسان، وهو يظنُّ أنه حرٌّ
