· مقالات

سرقوا المال… وعينُهم على الذهب

أ. د. هلا رشيد أمون

EYE Contact لموقع

«لا يجوز تجريدُ أحدٍ من مُلكه تعسّفاً»

بهذه العبارةِ الواضحة والحاسمة، يضع الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان أحدَ أبسطِ مبادئ العدالة: حمايةُ الملكية الفردية من تعسُّف السلطة. لكن ما جرى ويجري في لبنان هو نقيضُ هذا المبدأ تماماً: تجريدٌ جماعيّ، منظّم، ومُشرَّع، تُنزَع فيه أموالُ الناس باسم القانون، وتُبرَّر السرقةُ بخطابٍ كاذبٍ عن الإصلاح والإنقاذ

لم يكن الانهيار المالي اللبناني حادثاً عابراً، ولا خطأً تقنيَّاً في الإدارة، بل جريمةً منظّمةً مكتملةَ الأركان، شاركت فيها المصارفُ، وحَمَتها السلطةُ السياسية، وأدارها مصرفُ لبنان. وبعد أكثر من ستّ سنواتٍ من الإذلال والإنكار، لا يُقدَّمُ للناس حلٌّ فعلي، بل عفوٌ عام عن السارقين، مغلَّفٌ بلغةِ «الفرصة الأخيرة» و«استعادة الانتظام المالي»

اليوم، لا تُعالجُ الجريمةُ، بل يُعاد إنتاجها تشريعيَّاً. فقانون «إعادة الانتظام المالي»، الذي يُفترضُ أن يعيد الثقةَ إلى النظام، لا يستعيد في الواقع سوى انتظام النهب، ويحوّل السرقةَ من فعلٍ مُدانٍ إلى إجراءٍ مشروع

بموجب هذا القانون، يُكافَأ المودعون - بعد ستّ سنوات من الحجز القسري والاقتطاع المقنّع من إيداعاتهم - بالفتات: سقفُ مئةِ ألف دولار، تُدفع على أربع سنوات، فيما يُشطب الجزءُ الأكبرُ من ودائعهم، ويُدفن ما تبقّى في سنداتٍ طويلة الأجل، فاقدةِ القيمة والسيولة. وهذا ليس تعويضاً، ولا حلَّاً مرحلياً، بل اعترافٌ رسمي بأنَّ المال سُرقَ، وبأنَّ الدولة لا تنوي إعادته

المودعُ ضحيَّةٌ… والمصرفُ بريء

في المقابل، تخرج المصارفُ، وهي الفاعلُ الأساسي في الجريمة، شِبه سالمةٍ من أيِّ محاسبةٍ. لا تحميل فعلي للخسائر، لا شطب لرساميل، لا مساءلة لمجالس إدارات، ولا فتح للملفات التي تُخفي سنواتٍ من الهندسات المالية، والمضاربات، وتبييض الأموال

بل أكثر من ذلك، تعارضُ المصارفُ التدقيقَ الجنائي في حساباتها، وتطالب بقانونِ «عفا الله عمّا مضى». وما مضى لم يكن تفصيلاً إدارياً، بل عمليةُ نهبٍ ممنهجةٍ امتدّت لعقود، وراكمت أرباحاً خياليةً لقلةٍ، على حسابِ مجتمعٍ كامل

هنا، يتحوّل القانونُ من أداةٍ للعدالة إلى ما حذّر منه "جان جاك روسو": أداةٍ تُصاغُ لحمايةِ مَن يملكون السلطة والثروة، لا مَن سُلبوا حقوقهم. فحين تُكتب القوانينُ بأقلام الأقوياء، لا تحمي الضعفاءَ، بل تُنظّمُ سحقَهم

الذهبُ: الخطُّ الأحمرُ الأخير

الأدهى أنَّ المصارف، التي أقرَّت بضلوعها في عمليات تبييض أموالٍ بمليارات الدولارات (عبر تمييزها بين أموالٍ مشروعةٍ وغير مشروعة) لا تكتفي بالإفلات من العقاب، بل تطالب الدولة — أي المجتمع — بأن تدفع عنها. ولكن كيف؟ عبر استخدام أصولِ وموجوداتِ مصرف لبنان، والتلميح الوقح إلى بيع الذهب أو استثماره

الذهبُ، آخرُ ما تبقّى من أصولٍ عامَّة، وآخرُ خطِّ دفاعٍ مالي للدولة، يُراد تحويله إلى غطاءٍ لجرائم خاصَّة. وهذا ليس «حمايةً لصغار المودعين»، بل نهبٌ ثانٍ، أشدّ وقاحةً من الأول: نهبُ المال العام لتغطية خسائر مَن نهبوا المال الخاص

وفي أيِّ بلدٍ يحترم نفسه، تُشطبُ رساميلُ المصارف قبل المساس بدولار واحد من أموال الناس. في أيِّ نظامٍ عادل، مَن جنى الأرباح يتحمّل الخسائر. أمَّا في لبنان، فالقاعدةُ معكوسة: يُكافَأ السارقُ، ويُجلَد الضحية

عندما تحاكِمُ المنظومةُ الفاسدةُ نفسَها

والمفارقةُ الفاضحة أنَّ مَن شاركوا المصارف في الجريمة - زعماء طائفيون، سياسيون، وزراء، نواب، وأحزاب - هم أنفسهم مَن يجلسون اليوم على طاولة «الحلول». هم مَن تسبّبوا بالانهيار، وهم مَن يشرّعون نتائجه، وهم مَن يفرضون كلفته على الناس

وحين تتوزّع الجريمةُ بهذا الشكل، يُراهن أصحابُها على ضياع المسؤولية. لكن، كما تقول "هانا آرندت": «حيث يتقاسم الجميعُ الذنبَ، لا يكون أحدٌ بريئاً». فالجريمةُ الجماعيةُ لا تُسقِط المحاسبةَ، بل تجعلها أكثر إلحاحاً

أما مصرفُ لبنان، مديرُ التفليسة وحارسُ أسرارها، فقد تغيَّر حاكمُه ولم يتغيّر نهجُه. دفاتره لا تُفتح، وصناديقه السوداء لا تُمسّ، رغم أنها تختزن مفاتيحَ أكبر عمليةِ نهبٍ في تاريخ البلاد

وعندما يكتب السارقُ قانونَ براءته، والشريكُ في الجريمة يصوغ معاييرَ العدالة، والضحايا يُطلب منهم الانتظار أو النسيان. فسوف تبقى هناك أسئلةٌ ممنوعةٌ ومُحرَّمة وبلا أجوبة

مَن هرّب الأموال؟ مَن استفاد من الهندسات المالية والقروض المليونية؟ مَن راكم الثروات بينما كانت البلاد تُفلس؟ ومَن قرّر أنَّ أموال المودعين ليست ملكهم؟

الخلاصة

ما يُطرح اليوم ليس إصلاحاً مالياً، بل عفوٌ اقتصادي شامل، يُشبه العفو السياسي الذي طوى جرائمَ الحرب الأهلية، وحوَّل أمراءَ الحرب إلى أسياد السلم. والنتيجةُ معروفة: لن يدخل مصرفيٌ واحدٌ السجن، ولن يُحاسَب سياسيٌ واحدٌ، وستُقفل الملفاتُ، ويُطلب من الناس بأن يبدؤوا «مرحلةً جديدة» فوق أنقاض حقوقهم

وهكذا .. فإنَّ لبنان لم يَعُد بلداً منهاراً مالياً فقط، بل بلداً تُصادَر فيه الحقوقُ بضميرٍ مرتاح. وما يُسمّى «إعادة انتظام» ليس سوى تنظيمٍ رسمي للإفلات من العقاب، وتكريسٍ لمعادلةٍ فاضحة: مَن يسرق أكثر، يُحاسَب أقل

والسؤال لم يعُد: كيف نُنقذ النظامَ المالي؟ بل: هل نملك الشجاعةَ لمحاسبةِ مَن دمّر حياةَ الناس؟

وإذا كان الجوابُ لا، فكلُّ قانونٍ سيصدر لن يكون حلاً، بل شاهدُ زورٍ على سرقة العصر