الميلادُ بين المغارة والشجرة: قراءةٌ تاريخيةٌ ورمزيةٌ في جذور الاحتفال
أ. د. هلا رشيد أمون
EYE Contact لموقع
في كلِّ عامٍ، ومع اقترابِ عيدِ الميلاد ورأس السنة، يعود الجدلُ في لبنان حول جواز وضعِ شجرة الميلاد في الساحات ذات الغالبية المسلمة، وحول مشاركة المسلمين في أعياد المسيحيين. وغالباً ما يتحوّل موسمُ الفرح إلى مناسبةٍ تُستعاد فيها خلافاتٌ فقهية ودينية قديمة، بدل أن يكون مساحةً للتواصل والاحتفال المشترك والتمتُّع بالعطلة الرسمية
ومن هنا تأتي هذه الدراسةُ لتوضيح حقيقةِ شجرة الميلاد: أصلها، رمزيتها، تأويلها، وتاريخ انتشارها، إضافةً إلى قراءةٍ رمزيةٍ تجمع بين “المغارة” و“الشجرة” في الذاكرة الدينية والإنسانية
أولاً - رواياتُ الميلاد في الأناجيل
تقدِّم الأناجيلُ روايةً موجزةً عن ولادةِ المسيح، دون اسهابٍ في وصفِ التفاصيل المحيطةِ بالمكان والرموز التي ارتبطت لاحقاً باحتفاليةِ عيد الميلاد. والأناجيلُ التي تتحدّث عن الميلاد هي إنجيل متى وإنجيل لوقا دون سواهما، أما مرقس ويوحنا فلا يرويان قصةَ الميلاد إطلاقاً: مرقس يبدأ من كرازة يوحنا المعمدان، ولا يذكر الميلاد. ويوحنا يبدأ بمدخلٍ لاهوتي: «في البدء كان الكلمة…»، دون روايةِ ميلادٍ تاريخية
أما إنجيلُ متّى فيكتفي بالإشارة إلى الولادة دون وصفِ المكان والظروف: «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، فدعا اسمه يسوع» (متّى 1 : 25). بل يركّز على يوسف النجار، وسلسلة نسب المسيح، وبشارة الملاك ليوسف بحَملِ مريم، وزيارة المجوس، والهرب إلى مصر، والعودة للإقامة في الناصرة. ولكنه لا يذكر مزوداً ولا مغارةً ولا شجرة
إنجيل لوقا هو المرجعُ الأساسي لوصفِ اللحظةِ الفعليةِ للولادة: حيث يقول: «وبينما هما هناك تمَّت أيامُها لتلِد. فولدت ابنها البكر، وقمّطته، وأضجعته في مذودٍ، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.» (لوقا 2 : 6–7). هذا النصُّ، على قِصره، هو المرجعُ الوحيد الذي يصف لحظةَ ميلاد الطفل في المذود الذي هو معلفٌ الحيوانات. إذ لم يكن لهما مكانٌ للاقامة في المنزل/الخان، فاضطرّا للمكوث في مكانٍ مُخصّّصٍ للحيوانات، لا للبشر
ثانياً - من أين جاءت فكرةُ المغارة؟
لم يرِد اسم "المغارة" نصَّاً في أيٍّ من الأناجيل، بل جاءت من التقليد المسيحي وكتابات القرون الأولى: يوستينوس الشهيد (القرن الثاني) كتب في “الحوار مع تريفون” أنَّ يسوع وُلِد في مغارةٍ قرب بيت لحم. أوريجانس (القرن الثالث) يؤكد أنَّ المغارة معروفةٌ لدى سكان فلسطين، بالقرب من بيت لحم. القديس فرنسيس الأسيزي (القرن الثالث عشر) هو أوّلُ مَن أقام مشهدَ "المغارة" بما فيها الحيوانات والرعاة، لتقريب القصة من الناس. وهكذا انتشرت المغارةُ الميلاديةُ كما نعرفها اليوم. أي أنَّ المغارةَ تقليدٌ مسيحيٌّ تاريخي، لا إنجيليّ نصِّي
ثالثاً - شجرةُ الميلاد: من طقوسٍ وثنيةٍ إلى رمزٍ مسيحي
لا تذكر الأناجيلُ أيَّ شيءٍ عن “شجرة الميلاد”. فأصلُ الشجرة يعود إلى الشعوب الجرمانية والاسكندنافية قبل المسيحية بقرون، إذ كانت تحتفل بالانقلاب الشتوي عبر شجرةٍ دائمةِ الخُضرة ترمز لاستمرار الحياة وسط بردِ الشتاء وظلامه. كانوا يعلّقون عليها فواكه ونجوماً كرموز للخصب والضياء
ومع انتشار المسيحيةِ في أوروبا الشمالية، أُعيدَ تفسيرُ هذا الرمز تفسيراً مسيحيَّاً : الأنوارُ التي توضع على الشجرة أصبحت رمزاً للمسيح الذي هو "نور العالم”، والاخضرارُ الدائم للشجرة هو رمزٌ للحياة الجديدة. ويروي التقليدُ أنّ المصلح البروتستانتي "مارتن لوثر" في القرن السادس عشر، هو أوّلُ مَن وضع شموعاً على شجرةٍ داخل منزله، بعدما أُعجِب بجمال ضوء النجوم المتلألئ بين أغصان أشجار الغابة في ليلةٍ شتوية، وقال لأطفاله إنَّ هذا النور يرمز إلى نور المسيح
ومن ألمانيا، انتقلت الشجرةُ إلى إنكلترا، ثم إلى العالم بفضل العائلة المالكة البريطانية والمهاجرين الألمان إلى أميركا. فتحولت إلى رمزٍ عالمي، ديني وثقافي واحتفالي
رابعاً - بين المغارة ِوالشجرة: رموزٌ إنسانيةٌ عابرةٌ للديانات
١- المغارةُ في الحضارات القديمة
كثيراً ما ارتبطت الولادةُ الإلهية أو شبه الإلهية في الأساطير القديمة بالكهف أو المكان المظلم: ميثرا (الدبانة الفارسية/الرومانية): وُلد من صخرةٍ في كهف في 25 كانون الاول. كريشنا (الديانة الهندوسية): وُلد في سجن/زنزانة في ليلةٍ مظلمة. زيوس الإغريقي: خُبِّئ بعد ولادته في كهف بجزيرة كريت لحمايته من والده "كرونوس" الذي كان يأكل أولاده. ديونيسوس وهرقل الإغريقيان تصورهما بعضُ الأساطير مولودين في كهف. فالنقطةُ المشتركةُ هنا هي الولادةُ في الظلام أو العزلة التي يعقبها الخلاصُ أو النور
لذلك فإنِّ المغارة في التقليد المسيحي ليست مجرّد مكانٍ جغرافي وُلد فيه المسيحُ، بل هي موضعُ الظلمة الأولى، هي الرحم، والقبر. وحين يقال إنَّ المسيح وُلد في «مغارة»، فهذا إيحاءً بأنّ «الحقيقة» تبدأ من الهشاشة والهامشيّ والمنسيّ، لا من قصور الأمراء. وبهذا يمكننا قراءة "المغارة" على أنّها تمثيلٌ لولادةِ الإنسان نفسه: الإنسانُ الذي يُلقى في عالمٍ باردِ، فقير، لكنّ الرجاء بالخلاص يبقى ممكناً، مهما اشتدت العتمة
٢- الشجرةُ في الحضارات القديمة
الشجرةُ رمزٌ مشتركٌ في غالبية الثقافات القديمة، وغالباً ما ارتبطت بالألوهية والحراسة: في الحضارة السومرية/البابلية، كانت "شجرةُ الحياة" ترمز إلى الخصب والخلود (جلجامش كان يبحث عن "نبتة الحياة"). في مصر القديمة كانت "شجرة الجميز" ترمز إلى الولادة والبعث والحماية الإلهية. في السردية اليهودية، كانت "شجرة الحياة" في جنة عدن ترمز للخلود، و "شجرة معرفة الخير والشر" ترمز للمعرفة المُحرَّمة
الشجرةُ في الحضارات القديمة، كانت تمثِّل دورات الحياة والموت، وتربط بين السماء والأرض والعُمق، وترمز للاتصال بين العوالم الثلاثة: السماء (أغصانها)، والأرض (جذعها)، والعالم السفلي (جذورها). وفي هذا السياق، تصبح شجرةُ الميلاد تجسيداً للدورة الكونية للحياة، وللقدرة على التجدُّد
خامساً - لماذا الاحتفال في 25 كانون الأول؟
لا أحد بعرف اليومَ أو الشهر الذي وُلد فيه المسيحُ بدقة، وتاريخُ 25 كانون الأول، هو اختيارٌ كَنَسيٌّ تمَّ في القرن الرابع الميلادي من قِبَل الكنيسة الغربية، لأنه يصادف عيداً رومانياً قديماً هو "ميلاد الشمس التي لا تُقهر" الذي كان يحتفل به الرومان في 25 كانون الأول تكريماً لإله الشمس، في يوم الانقلاب الشتوي، حيث تبدأ ساعاتُ النهار بالازدياد بعد أطول ليلةٍ في السنة. فكان العيدُ رمزاً لعودة النور. والفكرةُ الرمزيةُ واضحةٌ هنا: كما يعود نورُ الشمس بعد الظلام، يأتي نورُ المسيح بعد انتظار طويل
سادساً - بين نخلةِ مريم وشجرةِ الميلاد
هناك مَن يحاول الربطَ بين قصة مريم التي تهزُّ جذعَ الشجرة في القرآن، والشجرةِ التي يُزيّنها المسيحيون في الميلاد، مستشهداً بالآية القرآنية: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا» (مريم 25). لكنَّ شجرة الميلاد نشأت في أوروبا، وارتبطت ببيئةٍ لا تعرف النخيل أصلاً. أمَّا نخلةُ مريم فهي رمزٌ عربي/ صحراويّ يرمز إلى الغذاء والرزق، فيما الصنوبر يرمز إلى الحياة في الشتاء القارس
أضف الى ذلك، أنَّ الرواية القرآنية تربط الحدث مباشرةً بمريم، وانفرادها في مكان قصيّ، ومعجزة الرطب والماء، أمّا الروايةُ الإنجيلية فتضع الحدثَ ضمن سياق يهودي/ روماني أوسع (تعداد أوغسطس، زيارة الرعاة ..). ولكن رغم اختلاف الرموز، فالحدثُ واحدٌ: ولادةُ شخصيةٍ مركزيةٍ غيَّرت وجه التاريخ
في الختام، يقول نيتشة: «في العالم لا يوجد حقائق، بل تأويلات». والاحتفالُ الميلادي هو نتاجُ طبقاتٍ من الرموز والتأويلات: ميلادٌ إنجيليٌّ يحصل في مذودٍ، يصبح مغارةً. وشجرةُ وثنيةٌ، تصبح رمزاً مسيحياً. وعيدٌ شمسيٌّ روماني، يصبح تاريخاً لميلاد المسيح. وما بين المغارة (العُمق) والشجرة (الارتفاع) نسجت المسيحيةُ عبر قرونٍ سرديّةَ الميلاد
وإلى المعترضين على الشجرة
ليس مطلوباً من أحدٍ أن يشتري شجرةً أو يزيّنها أو يضعها في منزله. لكن من الضروري معرفة أنَّ الشجرة والمغارة والأنوار ليست رموزاً مسيحيةً خالصةً، بل هي رموزٌ تمَّت استعارتُها من حضاراتٍ وشعوبٍ خلقتها وصاغتها عبر زمنٍ طويل. والمسيحيةُ - مثل غيرها - أعادت تأويل هذه الرموز، وقدّمت من خلالها رسالةً جديدةً مفادها بأنَّ الحياة أقوى من الصقيع، وأنَّ النور ينتصر على العتمة، وأنَّ الإنسان مغروسٌ في الأرض لكنه يصبو نحو "المطلق" و "اللامتناهي" - أيَّاً يكن اسمُه - في كلِّ زمانٍ ومكان
وهذا ما قصده الفيلسوفُ "بول ريكور" في كتابه "رمزيةُ الشرّ" حين قال: إنّ الرموز الدينية ليست "حكاياتٍ طفوليةً"، بل هي "لغةٌ ثانيةٌ للوجود"، تساعد الإنسان على التعبير عن عمقه الروحي، وعلى قولِ ما لا تستطيع اللغةٌ المباشرةٌ قوله
