حواء والخطيئةُ الأولى: قراءةٌ نقديةٌ في سردياتِ الخَلق الإبراهيمية
أ. د. هلا رشيد أمون
EYE Contact لموقع
المقدمة
تُعَدّ قصةُ الخلق والخطيئة الأولى من أكثر القصص التأسيسية حضوراً في الوعي الديني الإنساني، إذ شكّلت الإطار الأول لفهم علاقةِ الإنسان بالله، وبذاته، وبالعالم. غير أنَّ هذه القصة، رغم وحدتها في الأصل الإبراهيمي، اتخذت مساراتٍ تأويليةً مختلفةً في كلٍّ من اليهودية والمسيحية والإسلام، فغدت مِرآةً تعكس تصوّر كل ديانةٍ للإنسان، وللحرية، وللمسؤولية، ولطبيعة العلاقة بين الذنب والخلاص
تهدفُ هذه الدراسةُ إلى تقديم قراءةٍ نقديةِ مقارنة في سرديات الخلق في الديانات الإبراهيمية الثلاث، للكشف عن أوجه التشابه والاختلاف في بنيتها الرمزية وتفسيرها اللاهوتي، وعن الكيفيةِ التي أعادت بها كلُّ ديانةٍ بناءَ الحدث المؤسِّس – من الخلق إلى السقوط – بما يتناسب مع رؤيتها للعالم ولجوهر الإنسان
ولا تقف هذه القراءةُ عند حدود المقارنة التاريخية أو النصيَّة، بل تتجاوزها إلى تأويلٍ فلسفي معاصر يسعى إلى تحرير القصة من سطوة السرديات الأبويَّة التي حمَّلت المرأةَ وِزرَ الخطيئةِ؛ وإلى إعادة قراءتها بوصفها لحظةَ وعيٍ لا لحظة سقوطٍ، وفِعلَ معرفةٍ لا فِعلَ عصيان
وبذلك لا يرمي البحث إلى نفي النصوص أو التقليل من قدسيتها، بل إلى إعادة تأويلها في ضوء منطق الحرية والمسؤولية، بحيث يتحول “التمرد” إلى وعيٍ بالذات، و”الخطيئة” إلى بداية الإدراك الأخلاقي، فلا تعود القصةُ إدانةً للمرأة، بل تمجيدًا لإنسانية الإنسان في بحثه الدائم عن الحقيقة
أولاً - في اليهودية
خلقُ الإنسان وبداياتُ السرد
في السرد التوراتي، لا تمثّل قصةُ الخلق مجرد بدايةٍ للإنسان، بل هي تأسيسٌ لعلاقته مع الله عبر الطاعة والخطيئة والعُقوبة. ففي الإصحاح الأول من سفر التكوين يُعرضُ الخلقُ بصيغة الجمع: «وقال اللهُ: نعملُ الإنسانَ على صورتنا كشبهنا» (تكوين 1:26). « فخلق اللهُ الإنسانَ على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم» (تكوين 1:27)
إلا أنَّ الإصحاح الثاني يتحول إلى روايةٍ أكثر تفصيلًا، يبرز فيها آدمُ كشخصٍ محدد: «وجبلَ الربُ الإله آدمَ تراباً من الأرض، ونفخَ في أنفه نسمةَ حياةٍ، فصار آدم نفساً حيّةً» (تكوين 2:7)
وكلمةُ “آدم” في الأصل العبري (آدام) تعني “الإنسان” أو “البشريِّ”، ومشتقة من “أدامة” أي التربة. أما “حواء” (Ḥawwāh) فتعني “مصدر الحياة” أو “أُمّ كلِّ حي”
الخلقُ والوصيَّة
تُخلقُ حواءُ من ضِلع آدم: « فأوقعَ الربُّ الإله سُباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدةً من أضلاعه، وملأ مكانها لحماً… هذه تُدعى امرأةً لأنها من امرءٍ أُخذت» (تكوين 2:21–23)
ثم يأتي الأمرُ الإلهي: «من جميع شجر الجنَّة تأكلُ أكلًا، وأمَّا شجرةُ معرفةِ الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت» (تكوين 2:16–17)
السقوطُ والعقوبة
توسوس الحيَّةُ لحواء فتأكل من الشجرة، ثم تعطي آدم ليأكل: «لن تموتا، بل الله عالمٌ أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر …» (تكوين 3:4–6).
ثم يطرد اللهُ الإنسانَ من الجنة، وتُلعنُ الحيةُ، وتتحمَّل المرأةُ آلامَ الولادة والخضوع للرجل، ويُحكمُ على آدم بأن يأكل بتعبٍ من الأرض التي لُعنت بسببه
الدلالةُ اللاهوتية
اليهوديةُ لا تؤمن بمفهوم “الخطيئة الأصلية” بالمعنى المسيحي؛ فالقصةُ تؤكد على المسؤولية الفردية: «النفسُ التي تُخطئ هي تموت» (حزقيال 18:20). أي أنَّ الخطيئة في اليهودية ليست موروثةً، بل فردية، ويمكن التكفير عنها بالتوبة والعمل الصالح. فالقصةُ ليست تأسيساً لعقيدة “السقوط”، بل مثالٌ على ضعف الإنسان ومسؤوليته أمام الوصية الإلهية
ثانياً - في المسيحية
من السرد إلى العقيدة
تستبقي المسيحيةُ القصةَ التوراتية، لكنها تمنحها تأويلاً لاهوتياً جديداً، يجعل من “الخطيئة الأولى” أساساً لعقيدة الفداء. فالأناجيلُ الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) لا تروي قصة الخلق، لكنها تفترضها ضمنياً، وتحوّلها من حدثٍ تاريخي إلى رمزٍ للخلاص. ويتضح هذا في رسائل بولس، الذي يقابل بين «آدم الأول» و «المسيح الأخير»: الأولُ أدخل الموتَ بالخطيئة، والثاني أبطله بالفداء، وبصلبهِ أزال الخطيئة الأصلية، ومنحَ الحياةَ الأبدية للمؤمنين
الخطيئةُ الموروثةُ والفداء
ترى المسيحيةُ أنَّ جميع البشر يرثون خطيئة آدم، لأنَّ الإنسان الأول نقل إلى ذريته طبيعةً ساقطةً. ولهذا جاء المسيحُ، بحسب العقيدة، كي يُفدي البشريةَ بموته على الصليب، “كفّارةً عن خطاياهم”، ويمنحهم الخلاصَ بالإيمان. وهكذا تتحول المسؤوليةُ الفرديةُ إلى حالةٍ جماعيةٍ من السقوط، أما الخلاصُ فلا يتحقق بالعمل وحده بل بالنعمة، أي بالهبةِ الإلهية التي تُمنحُ بالإيمان بالمخلّص
أثرُ الفداءِ في مفهوم المسؤولية
أحدثت عقيدةُ الفداء تحوّلاً جذرياً في فهم العلاقة بين الإنسان والذنب؛ فبدلاً من أن يُحاسَب كلُّ فردٍ على أفعاله، صار الخلاصُ رهينَ الإيمان بالمسيح الوسيط. وهنا تختلف الكنائس: فبينما ركزت الكنيسةُ الغربية على “الخلاص بالنعمة”، تمسكت بعضُ الكنائس الشرقية بدور التوبة والعمل الصالح في نيل الغفران. ومع ذلك، بقيَ جوهرُ اللاهوت المسيحي قائماً على فكرة أنَّ الخطيئة الأولى وضعت الإنسان في حالةِ سقوطٍ عام، لا ينهض منها إلا بالفداء الإلهي: « من أجل ذلك، كأنما بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطيةُ إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموتُ إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع» (رسالة بولس الى أهل رومية 5:12)
ثالثاً - في الإسلام
خلقُ الإنسانِ ومعنى آدم
يعرضُ القرآنُ القصةَ في مواضع متعددة، أبرزها في سُوَر البقرة، الأعراف، طه، والحجر. « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ » (سورة الحجر، 28)
يُذكرُ آدمُ باعتباره نموذجاً للإنسان، لا مجرد شخصٍ بعينه، خُلقَ من تراب، ونُفخَ فيه من روح الله. ولا يُذكر في القرآن كيف خُلقت زوجُه، ولا يرد اسم “حواء” مطلقاً، بل يشار إليها بـ “زوجك” أو “امرأتك”
الوصيةُ والابتلاء
«وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» (البقرة: 35)
النهيُ هنا جاء بصيغةِ التثنية، أي أنَّ الخطابَ موجَّهٌ لكليهما معاً، ممَّا يؤكد المسؤوليةَ المشتركة
لم يذكر القرآنُ نوعَ الشجرة، ولم يقل إنها “شجرة معرفة الخير والشر”، بل أبقاها رمزيةً غامضةً لتكون موضع اختبارٍ للطاعة
السقوطُ والتوبة
«فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا» (الأعراف: 22). «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (الأعراف: 23)
فالقرآنُ يستخدم طوال السرد ضميرَ التثنية (“كُلا”، “تكونا”، “فأكلا”)، وهو ما يؤكد فكرة أنَّ الذنب مشترك، والمسؤولية متساوية، والتوبة مزدوجة، والمغفرة شاملة. فالقرآن لا يُحمِّلُ المرأةَ وحدها تبعة السقوط، بل يقدّم القصةَ نموذجاً للابتلاء الإنساني العام
معنى الهبوط
«قُلْنَا ٱهْبِطُوا۟ مِنْهَا جَمِيعًۭا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًۭى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة: 38)
الهبوطُ هنا ليس عقوبةً أبديةً، بل بدايةُ الوجود الإنساني على الأرض، ومفتتحُ الحرية والتكليف. فالحياةُ الأرضية ليست سقوطاً، بل استمرارٌ للخطة الإلهية في الاستخلاف: « وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة: 30)
الدلالةُ الأخلاقية والرمزية
القرآنُ لا يتحدث عن “خطيئةٍ أصليةٍ”، بل عن خطأ وتوبةٍ وغفرانٍ: « وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7، النجم: 38). وبذلك تتحول القصةُ إلى درسٍ في المسؤولية الفردية، لا في وراثة الذنب
أما “التفاحةُ” التي التصقت بالخطيئة، فمصدرها لغويٌ لا نصيِّ؛ إذ إن الكلمة اللاتينية malum تعني “شراً” و”تفاحاً” في الوقت نفسه، ممَّا ولّد رمزًا فنياً في أوروبا لم تعرفه النصوص العبرية أو القرآنية. وكثيراً ما رُسمت حواء في الفنِّ المسيحي الأوروبي، وهي تقدِّم تفاحةً لآدم
رابعاً - المقارنةُ والتحليلُ الفلسفي
تُظهر بعضُ القراءات الإسلامية المتأثرة بالتقليد التوراتي ميلاً إلى تحميل المرأة وِزرَ الخطيئة، وهو ما يتعارضُ مع النص القرآني نفسه. إذ
يتضحُ من المقارنة أنَّ التطور من التوراة إلى القرآن ليس مجرد اختلافٍ في السرد، بل هو تحولٌ في الرؤيةِ إلى الإنسان والحرية
في التوراة: الخَلقُ تمهيدٌ للعقوبة، والمرأةُ محورُ السقوط
في المسيحية: الخطيئةُ تتحول إلى ميراثٍ لاهوتي، والفداءُ يصبح السبيلَ الوحيد للخلاص
في الإسلام: التجربةُ المشتركة تتحول إلى درسٍ في التوبة والمسؤولية الفردية، ويُلغى الموروثُ الأبوي الذي يُدينُ المرأة
من هنا يمكن القول إنَّ القرآن قدّم ثورةً في التأويل الإبراهيمي: إذ حرّر المرأةَ من دور “المُذنبة الأولى”، وحرّر الإنسانَ من عبء الخطيئة الموروثة، ووجّه القصةَ نحو معنى أسمى للحرية والاختيار
الخاتمة
تُظهر المقارنةُ بين السرديات الثلاث أنَّ قصة الخلق لم تكن في جوهرها حكايةً عن الخطيئة، بل حكايةً عن البحث الإنساني، وعن الوعي. فالانتقالُ من البراءة إلى التجربة، ومن الجنة إلى الأرض، ليس سقوطاً، بل عبورٌ نحو النضج. وحواءُ، في هذا التأويل، لم تكن أداةَ إغواءٍ، بل مبادِرةً إلى المعرفة، والاقترابُ من الشجرة لم يكن عصياناً، بقدر ما كان رغبةً في الاكتشاف
وهكذا تتحول “الخطيئةُ الأولى” إلى الخطوةِ الأولى في طريق الإنسان نحو الحرية. ومنذ تلك اللحظة، لم يعُد الإنسانُ مخلوقاً مطيعاً فحسب، بل كائناً قادراً على السؤال، وعلى تحمُّل تبعات اختياره
حواءُ لم تسقط، بل نهضت بالبشرية من الغفلة إلى الوعي، ومن الطاعة العمياء إلى التجربة الواعية. والعقوبةُ، في جوهرها، ليست إذلالاً، بل ثمنٌ للجرأةِ والشجاعة على المعرفة، فكلُّ وعي جديد يولدُ من تجاوزٍ للمألوف، ومن رغبةٍ في الفهم: «وقال الربُّ الإله: هوذا الإنسانُ قد صار كواحدٍ منا، عارفاً الخير والشر. والآن لعله يمدُّ يده ويأخذُ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل ويحيا إلى الأبد». (تكوين 3: 22)
بهذا المعنى، تتحول القصةُ التأسيسيةُ في نصوص الخلق الابراهيمية، من سردٍ لذنبٍ أنثوي إلى ملحمةٍ إنسانية كبرى تفكُّ الارتباط بين الخطيئة الأولى وحواء التي تصبح هي نفسها «رمزاً» قابلاً للتأويل، وتُعيد تعريف الخطيئة الأولى من لعنةٍ إلى لحظةِ وعيٍ ومعرفةٍ، والسقوط إلى بدايةٍ للارتقاء الإنساني والخطاب الأخلاقي، والطرد من الجنة الى ميلادٍ للحرية، ولاهوت الخطيئة إلى لاهوتٍ لمسؤولية الانسان الذي يسعى منذ آدم وحواء وحتى يومنا هذا، إلى فهم ذاته والعالم
ختاماً، لو أعدنا قراءةَ هذه القصةَ التأسيسيةَ قراءةً فلسفيةً ورمزيةً، حداثيةً لا تقليدية، لاستطعنا تحريرها من اثقال الذنب والإدانة والاتهام، ولتوقفنا عن اتهام المرأة بأنها سببُ الخروج من الجنة. فالقرآنُ لا يلوم المرأةَ، ولا يجعلها سبب الإغواء والخطيئة، بل جعل الإنسانَ كلّه موضع الابتلاء والتوبة. ومَن لم يدرك ذلك، فما زال يقرأ دينه بعين غيره، وما زال واقعاً تحت تأثير التراث التوراتي المتسرِّب الى الوعي الاسلامي
