كليةُ الآداب بين التشهير والإصلاح: حين تتحوّل الجامعةُ إلى ساحةِ صراعٍ سياسي
أ. د. هلا رشيد أمون
EYE Contact لموقع
ليست الحملةُ التي تستهدف كليةَ الآداب – الفرع الثالث في طرابلس، سوى واحدةٍ من أكثر الحملات تعسُّفاً التي تطال صرحاً أكاديمياً عريقاً مثل الجامعة اللبنانية. فخلفَ الشوشرة الإعلامية والشعارات الأخلاقية والاصلاحية البرُاقة، تختبئ أجنداتٌ سياسية وانتخابية واضحة، استُخدمت فيها الكلية وطلابها كأداةٍ لتصفية حساباتٍ شخصيةٍ وحزبية لا تمتّ إلى العمل الأكاديمي بصلة
وقد جاءت هذه الحملةُ في توقيتٍ لافتٍ، عشيّة الانتخابات الجامعية التي جرت يوم الثلاثاء الماضي، وهو ما يثير تساؤلاتٍ جدّيةٍ حول دوافعها وأهدافها. إذ بدا واضحاً أنَّ الغاية الأولى لم تكن الإصلاح أو كشف الفساد، بل استهداف مديرة الكلية، الدكتورة جنين الشعار، ومحاولة النيل من سمعتها الأكاديمية من خلال اتهاماتٍ وافتراءاتٍ نسجها عقلٌ مريض مهووس بالمؤامرات وتركيب الملفات، وهي لا تستند إلى وقائع موثوقة
وقد أسهم هذا الاستهدافُ الممنهج في تشويه صورة الكلية والجامعة على السواء، حتى باتت الأحاديث العامة لا تخلو من عباراتٍ تتحدث عن فساد الأساتذة والإداريين. وكأنّ مؤسسةً أكاديميةً عريقة يمكن اختزالها بمقالٍ صحافي أو تقريرٍ تلفزيوني أو شهادةٍ مبتورة من سياقها
من الشرارة إلى التصعيد الإعلامي
اندلعت الشرارةُ الأولى لهذه الأزمة بعد مقالٍ كتبه وليد حسين في جريدة المدن الإلكترونية، تلاه تقريرٌ من جزئين بثّته قناة “الجديد”، تضمّن اتصالاً مع طالبةٍ تُدعى آية, حاولت المذيعةُ خلاله استدراجها لانتزاع أي موقفٍ يدين المديرة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: مَن أعطى اسم الطالبة ورقم هاتفها إلى القناة؟ ومَن وجّهها للإدلاء بتصريحاتٍ تثير الشبهات حول أداء الإدارة في الكلية ؟
تشير المعطيات المتداولة إلى تدخلٍ سياسي مباشر من قِبل النائب «حيدر ناصر»، ما يجعل القضية أبعد من مجرد “خطأ إداري”، وأقرب إلى استهدافٍ مدروسٍ لشخص المديرة ، والى استثمار انتخابي شخصي في شؤونٍ داخليةٍ خاصة بالكلية
صحيحٌ أنّ الدكتورة جنين الشعار، كأيِّ مسؤولةٍ أكاديمية جديدة في منصبها، قد تكون ارتكبت بعض الهفوات الإجرائية بدافع الحماسة أثناء التحضير لحفل التخرّج، غير أنّ ذلك لا يبرر تحويل الموضوع إلى حملة تشهير واسعة. فالحديث عن “زلزال أكاديمي” لا يتعدى كونه تضخيماً إعلامياً مدفوعاً بالمصالح والخصومات الشخصية
الإعلام بين المهنية والاستغلال
وإذا كان بعض السياسيين قد حاولوا استغلال الحدث لمآرب انتخابية، فإنَّ الدور الإعلامي لم يكن أقلَّ تأثيراً في توجيه الرأي العام
فقد تواطأ بعض العاملين في الكلية مع وسائل إعلام عبر تسريب معلوماتٍ وتسجيلاتٍ مضلِّلة للصحافيين، في خطوةٍ تُلحق الأذى والضرر بصورة الكلية، وتضرب ثقة الطلاب والمجتمع بها
ولا يمكن تبرير هذا السلوك تحت أيِّ ذريعةٍ، لأنَّ كلية الآداب ليست ملكًا لأشخاصٍ بعينهم، بل هي ملكٌ للشعب اللبناني عامةً، ولأبناء الشمال خاصةً، وهي تمثّل ذاكرة أجيالٍ متطاولة من خرِّيجيها. وأيُّ عبثٍ بسمعتها يُعدّ إساءةً جسيمة للأمانة الأكاديمية
التشهير على وسائل التواصل
لم يقتصر الأمر على الإعلام التقليدي، بل امتدّ إلى حملةٍ منسّقة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث استُخدمت صفحاتٌ فيسبوكية تعود لأشخاصٍ معروفين في محيطهم، لنشر الاتهامات ذاتها وتكرارها. وقد أدّى ذلك إلى اهتزاز ثقة الطلاب وذويهم بالجامعة، بعدما تحوّلت تلك الصفحات إلى منابر للتجريح والافتراء، يديرها أشخاصٌ لا علاقة لهم من قريبٍ أو بعيد بالحياة الأكاديمية، يرددون ما يُملى عليهم دون وعي أو نقدٍ أو تحرٍّ للحقيقة أو التزامٍ بأخلاقيات النشر
البُعدُ السياسي والانتخابي
الواقع إنّ التزامن بين نشر هذه التقارير وموعد الانتخابات الجامعية لا يمكن أن يكون صدفةً بريئة. فالحملةُ جاءت لتخدم أهدافاً انتخابيةً واضحة، عبر إثارة البلبلة وتشويه صورة الإدارة الحالية. ومَن يُشارك في مثل هذه الحملات، عن قصدٍ أو جهل، يفقد أهليته الأكاديمية والأخلاقية في أن يكون مشاركاً في البيئة الجامعية التي يُفترض أن تقوم على البحث والحوار، لا على التشهير والإنتقام
والدفاع عن الدكتورة جنين الشعار لا يعني رفضَ مبدأ المساءلة أو النقد البنّاء، بل هو دفاعٌ عن القيم الأكاديمية، ورفضٌ لتحويل المحاسبة إلى أداة للتصفية، أو لتحويل الطلاب الى أدواتٍ في الفتنة وجواسيس على مديرتهم
لذلك، نطالب رئاسة الجامعة اللبنانية بفتح تحقيقٍ رسمي لتحديد الجهات التي زوّدت الإعلام بهذه المعلومات المضللة، ومحاسبة كلِّ مَن يقف وراء هذه الحملة المُغرضة، بما يضمن الشفافية ويحمي سمعة الجامعة
وختاماً، إنَّ ما يجري اليوم ليس مجرد خلافٍ إداري، بل هو معركة على الوعي الأكاديمي والأخلاقي في مواجهة التسييس والتشهير. لذلك، فلنكن على مستوى هذه المعركة، ولندافع عن جامعتنا بالحجة والبيّنة، لا بالاتهامات المتبادلة. ذلك أنَّ كلية الآداب، التي أنجبت كبار المفكرين والباحثين، أسمى من أن تُختزل بفضيحةٍ مفبركة أو بتقاريرٍ مضخّمة، أو أن تُستعمل وقودًا لصراعٍ انتخابي عابر
ووسائل الإعلام مدعوَّةٌ هنا، إلى الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية في تغطية الشؤون الأكاديمية، وعدم نشر أيِّ اتهام، قبل التحقق من صحة المعلومات ودقتها، حفاظًا على سمعة الجامعة اللبنانية كمؤسسةٍ وطنيةٍ علمية رائدة
